جريدة الراي :

جاسم بودي / الرأي اليوم / هنا الكويت... اغلق مدرسة لتفتح سجنا


خبر صغير لم ينتبه اليه احد في غمرة الجدال حول المصفاة الرابعة. خبر صغير لم يتوقف عنده كثيرون امام طوفان اخبار العمالة الوافدة والشركات المخالفة وقرار «الفيفا» ومشاكل الكهرباء والعلاقات مع العراق ورقص البعض في احتفال خاص. خبر صغير... كبير بمدلولاته، ومع ذلك فالانظار لم تشخص سوى على الخمسين الداخلة وصندوق المعسرين وبدلات المكافأة في هذه الوزارة او تلك. الخبر نشر في «الراي» الاثنين الماضي وانتظرت ان يقرأه من يجب ان يقرأه على انه من «الكبائر» لكن المهتمين بأخبار الصفقات والاموال والعمولات لم يروا فيه اي غضاضة طالما ان رمزيته تتعلق بسمعة وطن ومستقبل اجيال لا برائحة نفط ومستقبل أرصدة. الخبر يفيد بأن وزارة التربية «وافقت على طلب وزارة الداخلية منحها عددا من المدارس لاستخدامها كسجون ابعاد ومبان للهيئات المساندة»، على ان تتعهد «الداخلية» اعادتها الى وزارة التربية «في حال طلبها». خبر قاس ومرعب ومتعب. اغلق مدرسة وافتح سجنا. أين؟ في الكويت، منارة الخليج سابقا، والدولة الرسالة سابقا، وموطن الحريات العامة والتمدن والتطور... سابقا. اغلق مدرسة وافتح سجنا. ولم لا؟ وكل شيء يتراجع في الكويت فلا الحياة السياسية تتقدم الا الى الاسوأ ولا الحياة الاقتصادية تتوقف عن الشلل والتراجع ولا الحياة الاجتماعية تتطور. فلماذا ننتظر الا يصيب قطار التخلف القيم الاخلاقية ايضا، فنحول المدرسة من مكان يحصل فيه ابناؤنا على العلم والمعارف والتربية الى سجن يدخل اليه القاتل والمهرب والسارق والمزور؟ مدرسة قديمة؟ فليكن. نحولها الى ناد رياضي او اجتماعي او منشأة ترفيه او معرض او مرسم. اما ان نحولها من مؤسسة تربوية الى اخرى عقابية فأمر عرفه التاريخ في الانظمة الديكتاتورية الدموية، حين تحولت مدارس كمبوديا وصربيا والمانيا سابقا ورومانيا وعراق صدام حسين الى سجون عادية فمعتقلات فأماكن ابادة. كما ان التاريخ علمنا ان سجن المعونة في مصر حوله الولاة المسلمون الى مدرسة ثم الى متحف... في مرحلة التنوير. ما يحصل في الكويت غريب عجيب. فشلنا في وضع خطط لتطوير المناهج وتحديثها وتعديلها بما يتماشى وروح العصر. صار لزاما علينا من اجل الحصول على قشور الثورة التربوية العالمية الهائلة في العقود الثلاثة الماضية ان ننتظر اللجنة الداخلية ثم اللجنة الوزارية ثم اللجنة البرلمانية... ثم ملفات الحفظ. لم نعرف كيف ندخل مناهج عصرية من جهة ونربطها بمستقبل التخرج من جهة اخرى. مباني مدارسنا متهالكة قديمة لا تتسع للزيادات المطردة في عدد التلاميذ الذين نشرنا صورا لهم يفترشون الارض لضيق المكان، وبدل الاستجابة لنداءات تحديثها وتوسيعها وتزويدها بأحدث الوسائل التقنية نجد من يوفر على نفسه عناء خدمة اجيال الكويت بتحويل بعض المدارس الى سجون. السجون تتحول الى مدارس وحدائق ومعارض في كل انحاء العالم المتحضر والمدارس في الكويت تتحول الى سجون، حيث جلسنا كطلاب سيجلس مهربو المخدرات، وحيث فتحنا الكتب ستفتح ملفات القاتل، وحيث كتبنا سينام السارق. دولة تتكاثر فيها المؤسسات العقابية وتقل فيها المؤسسات التربوية... ماذا يمكن ان يقال فيها؟ ثم تعيد وزارة الداخلية «السجن» الى وزارة التربية في حال طلبها... فيعود «مدرسة». تنتقل الادوار بين المجرمين والطلاب بعدما انتقلت سابقا في الاتجاه المعاكس. هنا كان يجلس القاتل، المزور، السارق، المغتصب، المعتدي، المبعد. وهنا كان يقف «عشماوي» والضابط والرقيب والعسكري. الحقيقة الواضحة في الكويت اننا فشلنا في اقرار مشروع واحد حضاري ومنتج، لكننا نجحنا في تمرير كل المشاريع الفاشلة وبينها تحويل المدارس الى سجون، ومن قال ان الحكومة لا تمتلك رؤية طويلة الامد فهو واهم، لانها ترى ما لا يراه كثيرون، وما رأته دفعها الى اعتماد استراتيجية ترتكز على زيادة عدد المساجين وتقليص عدد الدارسين... وربما كانت صادقة في ذلك من دون ان تتعمد الصدق، لان سياستها الراهنة وممارساتها المتخبطة وترددها المستمر كلها عوامل قد تؤدي الى هذه الاستراتيجية المستقبلية.