بعد سقوط برلين وانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام 1945، بدأت ما يسمى بالحرب الباردة بين قطبي القوى العظمى (الكتلة الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، والكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفييتي السابق) في محاولة للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من مناطق النفوذ والسيطرة.

وبات يطلق على الكتلة الغربية تسمية «العالم الأول» في حين أطلقت تسمية «العالم الثاني» على الكتلة الشرقية، ولما كانت دول كثيرة اتخذت موقف الحياد من هذا الصراع الأيديولوجي بين الرأسمالية والشيوعية، خرجت تسمية «العالم الثالث» لتصف دول «عدم الانحياز» التي فضلت عدم الاشتراك في هذا الصراع الأيديولوجي والتسابق على التسلح النووي، غير أن هذه التسمية التي لم تكن تحمل في البداية أي مفاهيم للتخلف، خاصة أنها كانت تضم دولا متقدمة ورأسمالية أيضا مثل سويسرا والسويد وإيرلندا اختارت الحياد في تلك الحرب الباردة، إلا أن تطورا ما حدث لمفهوم العالم الثالث بعد ذلك وأصبح تقسيم العالم يأخذ منحى آخر، فأعطيت لأميركا وحلفائها في الناتو (فرنسا، إيطاليا، بريطانيا، كندا...) تسمية «العالم الأول» على أساس أنها دول متقدمة صناعيا، وديموقراطية سياسيا، ويتمتع الفرد فيها بحرية التفكير ومستوى معيشة جيد، في حين وسمت دول حلف وارسو (الاتحاد السوفييتي، ألمانيا الشرقية، رومانيا، پولندا...) بدول «العالم الثاني» كونها تتمتع بتقدم صناعي كبير ولكنها ديكتاتورية في السياسة وحقوق الإنسان الذي يفتقر فيها للحرية ويعيش في مستويات متدنية من المعيشة.

أما الدول «المتخلفة» الأخرى التي تعيش في ظل أنظمة اقتصادية «متخلفة» وغير منتجة ولا صناعية، وأنظمة سياسية ديكتاتورية بعيدة كل البعد عن «الديموقراطية» الغربية، ويعاني مواطنوها من الجهل والفقر بأبشع صوره، فهي تستحق عن جدارة وصفها بدول «العالم الثالث»، وهي تسمية أصبحت تحمل بكل وضوح مفاهيم التخلف والتراجع عن ركب الحضارة الغربية بعد انتهاء الدور الأول لهذه التسميات خلال فترة الحرب الباردة وظهور «حاجة» جديدة لاستخدام آخر!

فعندما انتهت الحرب الباردة بسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه إلى جمهوريات بدأت سريعا بالتحول إلى الرأسمالية منذ عام 1990 اختفى عندئذ مصطلح «العالم الثاني» في حين بقيت تسمية العالم الثالث حتى اليوم حاضرة في أدبيات السياسة والاقتصاد على الرغم من عدم وجود عالم ثان وصعود دول كثيرة في مجال التنمية البشرية والتقدم الصناعي.

الأمر الذي استدعى ظهور مصطلحات جديدة مثل «الدول المتطورة» والدول «الأقل تطورا» والدول «غير المتطورة» بهدف تمييز البلدان التي استطاعت أن تخط لنفسها خطا جديدا تخرج فيه من دائرة العالم الثالث لتلتحق بركب «العالم الأول» .. العالم الأميركي.

وعلى الرغم من أن مثل هذه التسميات قد توحي بوجود معايير علمية لتصنيف الدول وفقا للأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يوحي أيضا بأنها تصنيفات علمية عادلة، إلا أنها تخفي وراءها بعدا آخر ربما يفسر لنا كثيرا مما يحدث في منطقة الشرق الأوسط بالتحديد من تدخل سافر يحمل في طياته تبريرات مثالية وحججا واهية تدعي محاولة النهوض بدول هذه المنطقة وسحبها «عنوة» من عالمها الثالث المتخلف في كل شيء إلى رحاب «العالم الأول» الجميل!

ومع أن مصطلح «العالم الرابع» قد استخدم حديثا لتمييز 50 دولة من أفريقيا وآسيا مثل أنجولا وبنين وتشاد وجيبوتي وبنغلاديش وغيرها، على اعتبار أن هذه الدول تقع في مرتبة أقل من مرتبة دول العالم الثالث الذي يتمتع على الأقل بثروات طبيعية يمكن استغلالها إلى حد ما في التنمية، فدول العالم الرابع تعاني من الفقر والجوع والتخلف وانعدام أي مظهر من مظاهر الصناعة الحديثة وفيها من الصراعات الإثنية والعرقية والطائفية أكثر بكثير من دول العالم الثالث، إلا أن هناك حقيقة لا بد من ملاحظتها من كل تلك التقسيمات تتعلق بالهدف منها أساسا وهو بكل وضوح «تبرير» احتلال هذه الدول ونهب ثرواتها باسم التقدم، وهو ما نقرأه جيدا في خطاب الرئيس بوش، والمحافظين الجدد تجاه الشرق الأوسط، حيث يرددون بكل وضوح «عزم» الولايات المتحدة و«حلفائها» على استئصال الديكتاتوريات واستبدال أنظمة «ديموقراطية» ورأسمالية تعمل وفقا لنظام السوق العالمي المفتوح بها، بل حتى تصدير قيم الغرب ومفاهيمه الدينية ليصبح العالم كما تصوره فوكوياما ديموقراطيا رأسماليا على الطريقة الأميركية فقط !

ولكننا نتساءل لماذا لا توجه أميركا وحلفاؤها من دعاة العمل على استئصال الديكتاتوريات والنهوض بالدول المتخلفة جهودها إلى دول «العالم الرابع» أولا كونها بحاجة أكبر لمثل تلك الجهود، لماذا تتلف الولايات المتحدة الأميركية ملايين الأطنان من القمح والبطاطا والفواكه سنويا لتحافظ على أسعارها المرتفعة بدلا من إطعام جياع العالم الرابع؟

لماذا تحتل منطقة الشرق الأوسط بالتحديد مركز اهتمام هذا العالم الأول المتقدم على الرغم من أن معظم دول هذه المنطقة تمتلك مقومات النهوض والانطلاق بدرجة أكبر بكثير من دول العالم الرابع، فهل العراق أو إيران أو سورية على سبيل المثال متخلفة بصورة أكبر من رواندا وتنزانيا وأوغندة وبنغلاديش؟! أم أن المسألة أبعد بكثير من مجرد دعوى وشعارات براقة لتصدير الديموقراطية وهي التي لا يصدقها أغلب شعوب منطقة الشرق الأوسط ولا يثقون بمن وراءها، خاصة انهم يرون كل يوم إخوانهم يقتلون ويعذبون في فلسطين دون أن يتحرك هذا العالم المثالي المتقدم الذي يدعو للتسامح والتعايش السلمي ولا يفعل شيئا ضد آلة القتل الإسرائيلية التي لا ندري إلى أي عالم تنتمي !