الاستبرق الموعود
08-12-2010, 07:06 AM
[عجبني كلام ابن القيم في مسألة تزكية النفس فحبيت اشا رك فيها
رسالة في تزكية النفوس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، والصلاة والسلام على من فتح الله به باب المتاب، وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الإياب.
أما بعد:
فهذه كلمات يسيرة، وجمل من العلم قليلة، ولكنها في غاية الأهمية؛ لأنها الخطوط الرئيسة لمنهج أهل السنة والجماعة في السلوك، ومداواة النفوس وتزكيتها حتى تصل إلى حقيقة التقوى ونور المعرفة، وهي مختصرة من كلام الإمام العالم بعلل النفوس وأدوائها وطرق شفائها: ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى. وقد قسمنا كلامه رحمه الله إلى فقرات، ووضعنا لكل فقرة عنواناً مناسباً حتى لا يتشتت ذهن القارئ أو يمل خاطره.
عنوان السعادة:
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن عنوان سعادة العبد ثلاثة أمور، وهي: أنه إذا أنعِم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
قال: فإن الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها أبداً، فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاث:
الشكر على النعماء:
الأول: نعم من الله تعالى تترادف عليه، فقيّدها: الشكر.
أركان الشكر:
والشكر مبني على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطناً، والتحدث بها ظاهراً، وتصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها. فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها.
الصبر على البلاء:
الثاني: محن من الله تعالى يبتليه بها، ففرضه فيها الصبر والتسلي.
أركان الصبر:
والصبر : حبس النفس عن التسخّط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية، كاللطم، وشق الثياب، ونتف الشعر ونحو ذلك.
فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام بها العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوباً.
حكمة الابتلاء:
فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتل العبد ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضرّاء، كما له عليه عبودية في السرّاء، وله عليه عبودية فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره؛ ففيه تفاوتت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى، فالوضوء بالماء البارد في شده الحر عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية، ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية، هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية، وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية، ونفقته في الضرّاء عبودية، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين.
فمن كان عبداً لله في الحالتين، قائماً بحقه في المكروه والمحبوب، فذلك الذي تناوله قوله تعالى: {ألَيسَ اللهُ بِكَافٍ عَبدَهُ} [سورة الزمر: 36]، وفي القراءة الأخرى: {عِبَادَهُ} وهما سواء، لأن المفرد مضاف، فيعم عموم الجمع.
فالكفاية التامة مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.
إغواء الشيطان:
وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [سورة الإسراء: 65]. ولما علم عدو الله إبليس أن الله تعالى لا يسلمُ عبادهُ إليه، ولا يسلطه عليهم قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٨٢﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة ص: 82- 83]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٢٠﴾ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سورة سبأ: 20-21].
فلم يجعل لعدوه سلطان على عباده المؤمنين، فإنهم في حرزه وكلاءته وحفظه، وتحت كنفه، وإن اغتال عدوه أحدهم كما يغتال اللص الرجل الغافل، فهذا لا بد منه، لأن العبد قد ابتلي بالغفلة والشهوة والغضب، ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة، ولو احترز العبد ما احترز، فلا بد له من غفلة، ولا بد له من شهوة، ولا بد له من غضب، وقد كان آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم من أحلم الخلق، وأرجحهم عقلاً، وأثبتهم، ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، فما الظن بمن عقله في جنب عقل أبيه كتفلةٍ في البحر؟
نعمة فتح باب التوبة:
الثالث: التوبة والندم:
فإن أراد الله بعبده خيراً فتح له من أبواب التوبة، والندم والانكسار، والذل، والافتقار، والاستعانة به، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرع، والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات، ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته، حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه، وهذا معنى قول بعض السلف: "إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار". قالوا: "كيف؟"، قال: "يعمل الذنب فلا يزال نُصب عينيه خائفاُ منه مشفقاُ وجلاً باكياً نادماً مستحياً من ربه تعالى، ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب سبب سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة".
آفة العجب والغرور:
ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول: فعلت، وفعلت، فيورثه ذلك من العجب والكبر، والفخر والاستطالة، ما يكون سبب هلاكه. فإذا أراد الله بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمر يكسره به، ويذل به عنقه، ويصغر به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه.
علامة التوفيق:
فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق: ألا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان: أن يكلك الله تعالى إلى نفسك.
فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وظلمها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه، ورحمته، وجوده، وبره، وغناه، وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، ولا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما، فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: "العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل".
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» [رواه البخاري].
فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: «أبوءُ لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي» بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار، والافتقار، والتوبة في كل وقت.
مدار العبودية
والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها:
حب كامل، وذلّ تام.
ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين، وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرّة وغفلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته.
عوامل استقامة القلب:
وإنما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجوارحه؛ فاستقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه، فرتب على ذلك مقتضاه، وما أسهل هذا بالدعوى، وما أصعبه بالفعل ، "فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان".
وما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه، أو يحبه كبيره وأميره وشيخه أو أهله على ما يحبه الله تعالى، فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابه، وينغصها عليه، ولا ينال شيئاً منها إلا بنكد وتنغيص، جزاءً له على إيثاره هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى.
الأمر الثاني: الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظمه ولا يعظم أمره ونهيه، قال سبحانه وتعالى: {مَّا لَكُم لاَتَرجُونَ للهِ وَقَاراً} [سورة نوح: 13]، قالوا في تفسيرها: "مالكم لا تخافون الله تعالى عظمة؟!.
حقيقة تعظيم الأمر والنهي:
وما أحسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الأمر والنهي:
"هو ألا يُعَارَضا بترخّص جافٍ، ولا يُعَارَضا بتشديدٍ غالٍ، ولا يحملا على علة تُوهنُ الانقياد".
ومعنى كلامه: أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه، وذلك لأن المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة، والبراءة من النفاق الأكبر، فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع على المناهي، فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي.
علامات تعظيم الأوامر:
فعلامة التعظيم للأوامر:
- رعاية أوقاتها وحدودها.
- والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها.
- والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها.
- والمسارعة إليها عند وجوبها.
- والحزن والكآبة والأسف عند فوات حق من حقوقها.
تعظيم شأن الصلاة:
كمن يحزن على فوت الجماعة، ويعلم أنه لو تقبلت منه صلاته منفرداً، فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضِعفاً.
وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه، ولكانت قرعة.
وكذلك فوت الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى، الذي هو روحها ولبها؛ فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبداً ميتاً أو جارية ميتة؟، فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره، فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد - أو الأمة - الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك، ولهذا لايقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها، فإنه ليس للعبد من صلاة إلا ما عقل منها، كما في "السنن" و "مسند الإمام أحمد" وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، حتى قال: إلا عشرها» [حسنه الألباني].
التفاضل بحسب ما في القلوب:
وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر الذنوب تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما:
- تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان.
- وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.
مفسدات الأعمال:
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه:
- فالرياء - وإن دق - محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر.
- وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً.
- والمنّ به على الله تعالى بقلبه مفسد له.
وكذلك المنّ بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أيُها الذِينَ أمَنُوا لاَ تُبطِلُوا صَدَقَاتَكُم بِالمَنِ والأذَى} [سورة البقرة: 264]، وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: {يّا أيُها الذِينَ أمَنُوا لاَ تَرفَعُوا أصواتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبي وَلاَ تَجهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لبعض أن تحبط أعمالكم وَأنتُم لاَ تَشعُرُونَ} [سورة الحجرات: 2]. فحذر سبحانه المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض ، وليس هذا بردةٍ ، بل معصية يحبط بها العمل، وصاحبها لا يشعر بها، فما الظن بمن ّقدم على قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟، أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» [رواه البخاري].
فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله ويحذره.
وقد جاء في أثر معروف: وإن العبد ليعمل العمل سراً لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى، فيتحدث به، فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية، ثم يصير في ذلك الديوان على حسب العلانية، فإن تحدث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى أبطله كما لو فعله لذلك.
تدافع الحسنات والسيئات:
فإن قيل: فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟
* فالذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل، ويكون الحكم فيها للغالب، وهو يقهر المغلوب، ويكون الحكم له، حتى كأن المغلوب لم يكن، فإذا غلبت على العبد الحسنات رفعت حسناته الكثيرة سيئاته، ومتى تاب من السيئة ترتّب على توبته منها حسنات كثيرة قد تربي وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة، فإذا عزمت التوبة وصحت، ونشأت من صميم القلب، أحرقت ما مرت عليه من السيئات، حتى كأنها لم تكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الذنوب أمراض القلوب:
يوضح هذا أن السيئات والذنوب هي أمراض قلبية، كما أن الحمى والأوجاع أمراض بدنية، والمريض إذا عوفي من مرضه عافية تامة عادت إليه قوته وأفضل منها حتى كأنه لم يضعف قط.
فالقوة المتقدمة بمنزلة الحسنات، والمرض بمنزلة الذنوب، والصحة والعافية بمنزلة التوبة سواء بسواء، وكما أن من المرضى من لا تعود إليه صحته أبداً لضعف عافيته، ومنهم من تعود صحته كما كانت لتقاوم الأسباب وتدافعها، ويعود البدن إلى كماله الأول، ومنهم من يعود أصح مما كان وأقوى وأنشط لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لأسباب الضعف والمرض، حتى ربما كان مرض هذا سبباً لعافيته، كما قال الشاعر:
لعل عتبك محمود عواقبهُ **** وربما صحتِ الأجسامُ بالعللِ
فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث.
علامات تعظيم المناهي:
وأما علامات تعظيم المناهي:
1- فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها.
2- أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه.
علامات تعظيم الأوامر والنواهي:
1- ألا يعارضا بترخص جافٍ، ولا يعارضا بتشديد غالٍ، فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه.
2- ألا يُحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه ، متمثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر.
والله الموفق، لا إله غيره، ولا رب سواه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، والصلاة والسلام على من فتح الله به باب المتاب، وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الإياب.
أما بعد:
فهذه كلمات يسيرة، وجمل من العلم قليلة، ولكنها في غاية الأهمية؛ لأنها الخطوط الرئيسة لمنهج أهل السنة والجماعة في السلوك، ومداواة النفوس وتزكيتها حتى تصل إلى حقيقة التقوى ونور المعرفة، وهي مختصرة من كلام الإمام العالم بعلل النفوس وأدوائها وطرق شفائها: ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى. وقد قسمنا كلامه رحمه الله إلى فقرات، ووضعنا لكل فقرة عنواناً مناسباً حتى لا يتشتت ذهن القارئ أو يمل خاطره.
عنوان السعادة:
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن عنوان سعادة العبد ثلاثة أمور، وهي: أنه إذا أنعِم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
قال: فإن الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها أبداً، فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاث:
الشكر على النعماء:
الأول: نعم من الله تعالى تترادف عليه، فقيّدها: الشكر.
أركان الشكر:
والشكر مبني على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطناً، والتحدث بها ظاهراً، وتصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها. فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها.
الصبر على البلاء:
الثاني: محن من الله تعالى يبتليه بها، ففرضه فيها الصبر والتسلي.
أركان الصبر:
والصبر : حبس النفس عن التسخّط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية، كاللطم، وشق الثياب، ونتف الشعر ونحو ذلك.
فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام بها العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوباً.
حكمة الابتلاء:
فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتل العبد ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضرّاء، كما له عليه عبودية في السرّاء، وله عليه عبودية فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره؛ ففيه تفاوتت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى، فالوضوء بالماء البارد في شده الحر عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية، ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية، هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية، وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية، ونفقته في الضرّاء عبودية، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين.
فمن كان عبداً لله في الحالتين، قائماً بحقه في المكروه والمحبوب، فذلك الذي تناوله قوله تعالى: {ألَيسَ اللهُ بِكَافٍ عَبدَهُ} [سورة الزمر: 36]، وفي القراءة الأخرى: {عِبَادَهُ} وهما سواء، لأن المفرد مضاف، فيعم عموم الجمع.
فالكفاية التامة مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.
إغواء الشيطان:
وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [سورة الإسراء: 65]. ولما علم عدو الله إبليس أن الله تعالى لا يسلمُ عبادهُ إليه، ولا يسلطه عليهم قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٨٢﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة ص: 82- 83]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٢٠﴾ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سورة سبأ: 20-21].
فلم يجعل لعدوه سلطان على عباده المؤمنين، فإنهم في حرزه وكلاءته وحفظه، وتحت كنفه، وإن اغتال عدوه أحدهم كما يغتال اللص الرجل الغافل، فهذا لا بد منه، لأن العبد قد ابتلي بالغفلة والشهوة والغضب، ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة، ولو احترز العبد ما احترز، فلا بد له من غفلة، ولا بد له من شهوة، ولا بد له من غضب، وقد كان آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم من أحلم الخلق، وأرجحهم عقلاً، وأثبتهم، ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، فما الظن بمن عقله في جنب عقل أبيه كتفلةٍ في البحر؟
نعمة فتح باب التوبة:
الثالث: التوبة والندم:
فإن أراد الله بعبده خيراً فتح له من أبواب التوبة، والندم والانكسار، والذل، والافتقار، والاستعانة به، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرع، والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات، ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته، حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه، وهذا معنى قول بعض السلف: "إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار". قالوا: "كيف؟"، قال: "يعمل الذنب فلا يزال نُصب عينيه خائفاُ منه مشفقاُ وجلاً باكياً نادماً مستحياً من ربه تعالى، ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب سبب سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة".
آفة العجب والغرور:
ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول: فعلت، وفعلت، فيورثه ذلك من العجب والكبر، والفخر والاستطالة، ما يكون سبب هلاكه. فإذا أراد الله بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمر يكسره به، ويذل به عنقه، ويصغر به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه.
علامة التوفيق:
فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق: ألا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان: أن يكلك الله تعالى إلى نفسك.
فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وظلمها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه، ورحمته، وجوده، وبره، وغناه، وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، ولا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما، فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: "العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل".
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» [رواه البخاري].
فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: «أبوءُ لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي» بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار، والافتقار، والتوبة في كل وقت.
مدار العبودية
والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها:
حب كامل، وذلّ تام.
ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين، وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرّة وغفلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته.
عوامل استقامة القلب:
وإنما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجوارحه؛ فاستقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه، فرتب على ذلك مقتضاه، وما أسهل هذا بالدعوى، وما أصعبه بالفعل ، "فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان".
وما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه، أو يحبه كبيره وأميره وشيخه أو أهله على ما يحبه الله تعالى، فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابه، وينغصها عليه، ولا ينال شيئاً منها إلا بنكد وتنغيص، جزاءً له على إيثاره هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى.
الأمر الثاني: الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظمه ولا يعظم أمره ونهيه، قال سبحانه وتعالى: {مَّا لَكُم لاَتَرجُونَ للهِ وَقَاراً} [سورة نوح: 13]، قالوا في تفسيرها: "مالكم لا تخافون الله تعالى عظمة؟!.
حقيقة تعظيم الأمر والنهي:
وما أحسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الأمر والنهي:
"هو ألا يُعَارَضا بترخّص جافٍ، ولا يُعَارَضا بتشديدٍ غالٍ، ولا يحملا على علة تُوهنُ الانقياد".
ومعنى كلامه: أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه، وذلك لأن المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة، والبراءة من النفاق الأكبر، فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع على المناهي، فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي.
علامات تعظيم الأوامر:
فعلامة التعظيم للأوامر:
- رعاية أوقاتها وحدودها.
- والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها.
- والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها.
- والمسارعة إليها عند وجوبها.
- والحزن والكآبة والأسف عند فوات حق من حقوقها.
تعظيم شأن الصلاة:
كمن يحزن على فوت الجماعة، ويعلم أنه لو تقبلت منه صلاته منفرداً، فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضِعفاً.
وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه، ولكانت قرعة.
وكذلك فوت الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى، الذي هو روحها ولبها؛ فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبداً ميتاً أو جارية ميتة؟، فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره، فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد - أو الأمة - الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك، ولهذا لايقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها، فإنه ليس للعبد من صلاة إلا ما عقل منها، كما في "السنن" و "مسند الإمام أحمد" وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، حتى قال: إلا عشرها» [حسنه الألباني].
التفاضل بحسب ما في القلوب:
وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر الذنوب تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما:
- تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان.
- وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.
مفسدات الأعمال:
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه:
- فالرياء - وإن دق - محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر.
- وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً.
- والمنّ به على الله تعالى بقلبه مفسد له.
وكذلك المنّ بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أيُها الذِينَ أمَنُوا لاَ تُبطِلُوا صَدَقَاتَكُم بِالمَنِ والأذَى} [سورة البقرة: 264]، وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: {يّا أيُها الذِينَ أمَنُوا لاَ تَرفَعُوا أصواتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبي وَلاَ تَجهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لبعض أن تحبط أعمالكم وَأنتُم لاَ تَشعُرُونَ} [سورة الحجرات: 2]. فحذر سبحانه المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض ، وليس هذا بردةٍ ، بل معصية يحبط بها العمل، وصاحبها لا يشعر بها، فما الظن بمن ّقدم على قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟، أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» [رواه البخاري].
فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله ويحذره.
وقد جاء في أثر معروف: وإن العبد ليعمل العمل سراً لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى، فيتحدث به، فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية، ثم يصير في ذلك الديوان على حسب العلانية، فإن تحدث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى أبطله كما لو فعله لذلك.
تدافع الحسنات والسيئات:
فإن قيل: فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟
* فالذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل، ويكون الحكم فيها للغالب، وهو يقهر المغلوب، ويكون الحكم له، حتى كأن المغلوب لم يكن، فإذا غلبت على العبد الحسنات رفعت حسناته الكثيرة سيئاته، ومتى تاب من السيئة ترتّب على توبته منها حسنات كثيرة قد تربي وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة، فإذا عزمت التوبة وصحت، ونشأت من صميم القلب، أحرقت ما مرت عليه من السيئات، حتى كأنها لم تكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الذنوب أمراض القلوب:
يوضح هذا أن السيئات والذنوب هي أمراض قلبية، كما أن الحمى والأوجاع أمراض بدنية، والمريض إذا عوفي من مرضه عافية تامة عادت إليه قوته وأفضل منها حتى كأنه لم يضعف قط.
فالقوة المتقدمة بمنزلة الحسنات، والمرض بمنزلة الذنوب، والصحة والعافية بمنزلة التوبة سواء بسواء، وكما أن من المرضى من لا تعود إليه صحته أبداً لضعف عافيته، ومنهم من تعود صحته كما كانت لتقاوم الأسباب وتدافعها، ويعود البدن إلى كماله الأول، ومنهم من يعود أصح مما كان وأقوى وأنشط لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لأسباب الضعف والمرض، حتى ربما كان مرض هذا سبباً لعافيته، كما قال الشاعر:
لعل عتبك محمود عواقبهُ **** وربما صحتِ الأجسامُ بالعللِ
فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث.
علامات تعظيم المناهي:
وأما علامات تعظيم المناهي:
1- فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها.
2- أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه.
علامات تعظيم الأوامر والنواهي:
1- ألا يعارضا بترخص جافٍ، ولا يعارضا بتشديد غالٍ، فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه.
2- ألا يُحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه ، متمثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر.
والله الموفق، لا إله غيره، ولا رب سواه.
اسم المؤلف: منتقاة من كلام ابن القيم
رسالة في تزكية النفوس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، والصلاة والسلام على من فتح الله به باب المتاب، وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الإياب.
أما بعد:
فهذه كلمات يسيرة، وجمل من العلم قليلة، ولكنها في غاية الأهمية؛ لأنها الخطوط الرئيسة لمنهج أهل السنة والجماعة في السلوك، ومداواة النفوس وتزكيتها حتى تصل إلى حقيقة التقوى ونور المعرفة، وهي مختصرة من كلام الإمام العالم بعلل النفوس وأدوائها وطرق شفائها: ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى. وقد قسمنا كلامه رحمه الله إلى فقرات، ووضعنا لكل فقرة عنواناً مناسباً حتى لا يتشتت ذهن القارئ أو يمل خاطره.
عنوان السعادة:
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن عنوان سعادة العبد ثلاثة أمور، وهي: أنه إذا أنعِم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
قال: فإن الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها أبداً، فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاث:
الشكر على النعماء:
الأول: نعم من الله تعالى تترادف عليه، فقيّدها: الشكر.
أركان الشكر:
والشكر مبني على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطناً، والتحدث بها ظاهراً، وتصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها. فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها.
الصبر على البلاء:
الثاني: محن من الله تعالى يبتليه بها، ففرضه فيها الصبر والتسلي.
أركان الصبر:
والصبر : حبس النفس عن التسخّط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية، كاللطم، وشق الثياب، ونتف الشعر ونحو ذلك.
فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام بها العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوباً.
حكمة الابتلاء:
فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتل العبد ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضرّاء، كما له عليه عبودية في السرّاء، وله عليه عبودية فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره؛ ففيه تفاوتت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى، فالوضوء بالماء البارد في شده الحر عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية، ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية، هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية، وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية، ونفقته في الضرّاء عبودية، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين.
فمن كان عبداً لله في الحالتين، قائماً بحقه في المكروه والمحبوب، فذلك الذي تناوله قوله تعالى: {ألَيسَ اللهُ بِكَافٍ عَبدَهُ} [سورة الزمر: 36]، وفي القراءة الأخرى: {عِبَادَهُ} وهما سواء، لأن المفرد مضاف، فيعم عموم الجمع.
فالكفاية التامة مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.
إغواء الشيطان:
وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [سورة الإسراء: 65]. ولما علم عدو الله إبليس أن الله تعالى لا يسلمُ عبادهُ إليه، ولا يسلطه عليهم قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٨٢﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة ص: 82- 83]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٢٠﴾ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سورة سبأ: 20-21].
فلم يجعل لعدوه سلطان على عباده المؤمنين، فإنهم في حرزه وكلاءته وحفظه، وتحت كنفه، وإن اغتال عدوه أحدهم كما يغتال اللص الرجل الغافل، فهذا لا بد منه، لأن العبد قد ابتلي بالغفلة والشهوة والغضب، ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة، ولو احترز العبد ما احترز، فلا بد له من غفلة، ولا بد له من شهوة، ولا بد له من غضب، وقد كان آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم من أحلم الخلق، وأرجحهم عقلاً، وأثبتهم، ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، فما الظن بمن عقله في جنب عقل أبيه كتفلةٍ في البحر؟
نعمة فتح باب التوبة:
الثالث: التوبة والندم:
فإن أراد الله بعبده خيراً فتح له من أبواب التوبة، والندم والانكسار، والذل، والافتقار، والاستعانة به، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرع، والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات، ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته، حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه، وهذا معنى قول بعض السلف: "إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار". قالوا: "كيف؟"، قال: "يعمل الذنب فلا يزال نُصب عينيه خائفاُ منه مشفقاُ وجلاً باكياً نادماً مستحياً من ربه تعالى، ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب سبب سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة".
آفة العجب والغرور:
ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول: فعلت، وفعلت، فيورثه ذلك من العجب والكبر، والفخر والاستطالة، ما يكون سبب هلاكه. فإذا أراد الله بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمر يكسره به، ويذل به عنقه، ويصغر به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه.
علامة التوفيق:
فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق: ألا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان: أن يكلك الله تعالى إلى نفسك.
فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وظلمها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه، ورحمته، وجوده، وبره، وغناه، وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، ولا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما، فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: "العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل".
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» [رواه البخاري].
فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: «أبوءُ لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي» بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار، والافتقار، والتوبة في كل وقت.
مدار العبودية
والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها:
حب كامل، وذلّ تام.
ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين، وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرّة وغفلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته.
عوامل استقامة القلب:
وإنما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجوارحه؛ فاستقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه، فرتب على ذلك مقتضاه، وما أسهل هذا بالدعوى، وما أصعبه بالفعل ، "فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان".
وما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه، أو يحبه كبيره وأميره وشيخه أو أهله على ما يحبه الله تعالى، فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابه، وينغصها عليه، ولا ينال شيئاً منها إلا بنكد وتنغيص، جزاءً له على إيثاره هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى.
الأمر الثاني: الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظمه ولا يعظم أمره ونهيه، قال سبحانه وتعالى: {مَّا لَكُم لاَتَرجُونَ للهِ وَقَاراً} [سورة نوح: 13]، قالوا في تفسيرها: "مالكم لا تخافون الله تعالى عظمة؟!.
حقيقة تعظيم الأمر والنهي:
وما أحسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الأمر والنهي:
"هو ألا يُعَارَضا بترخّص جافٍ، ولا يُعَارَضا بتشديدٍ غالٍ، ولا يحملا على علة تُوهنُ الانقياد".
ومعنى كلامه: أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه، وذلك لأن المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة، والبراءة من النفاق الأكبر، فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع على المناهي، فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي.
علامات تعظيم الأوامر:
فعلامة التعظيم للأوامر:
- رعاية أوقاتها وحدودها.
- والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها.
- والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها.
- والمسارعة إليها عند وجوبها.
- والحزن والكآبة والأسف عند فوات حق من حقوقها.
تعظيم شأن الصلاة:
كمن يحزن على فوت الجماعة، ويعلم أنه لو تقبلت منه صلاته منفرداً، فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضِعفاً.
وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه، ولكانت قرعة.
وكذلك فوت الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى، الذي هو روحها ولبها؛ فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبداً ميتاً أو جارية ميتة؟، فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره، فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد - أو الأمة - الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك، ولهذا لايقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها، فإنه ليس للعبد من صلاة إلا ما عقل منها، كما في "السنن" و "مسند الإمام أحمد" وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، حتى قال: إلا عشرها» [حسنه الألباني].
التفاضل بحسب ما في القلوب:
وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر الذنوب تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما:
- تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان.
- وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.
مفسدات الأعمال:
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه:
- فالرياء - وإن دق - محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر.
- وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً.
- والمنّ به على الله تعالى بقلبه مفسد له.
وكذلك المنّ بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أيُها الذِينَ أمَنُوا لاَ تُبطِلُوا صَدَقَاتَكُم بِالمَنِ والأذَى} [سورة البقرة: 264]، وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: {يّا أيُها الذِينَ أمَنُوا لاَ تَرفَعُوا أصواتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبي وَلاَ تَجهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لبعض أن تحبط أعمالكم وَأنتُم لاَ تَشعُرُونَ} [سورة الحجرات: 2]. فحذر سبحانه المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض ، وليس هذا بردةٍ ، بل معصية يحبط بها العمل، وصاحبها لا يشعر بها، فما الظن بمن ّقدم على قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟، أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» [رواه البخاري].
فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله ويحذره.
وقد جاء في أثر معروف: وإن العبد ليعمل العمل سراً لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى، فيتحدث به، فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية، ثم يصير في ذلك الديوان على حسب العلانية، فإن تحدث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى أبطله كما لو فعله لذلك.
تدافع الحسنات والسيئات:
فإن قيل: فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟
* فالذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل، ويكون الحكم فيها للغالب، وهو يقهر المغلوب، ويكون الحكم له، حتى كأن المغلوب لم يكن، فإذا غلبت على العبد الحسنات رفعت حسناته الكثيرة سيئاته، ومتى تاب من السيئة ترتّب على توبته منها حسنات كثيرة قد تربي وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة، فإذا عزمت التوبة وصحت، ونشأت من صميم القلب، أحرقت ما مرت عليه من السيئات، حتى كأنها لم تكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الذنوب أمراض القلوب:
يوضح هذا أن السيئات والذنوب هي أمراض قلبية، كما أن الحمى والأوجاع أمراض بدنية، والمريض إذا عوفي من مرضه عافية تامة عادت إليه قوته وأفضل منها حتى كأنه لم يضعف قط.
فالقوة المتقدمة بمنزلة الحسنات، والمرض بمنزلة الذنوب، والصحة والعافية بمنزلة التوبة سواء بسواء، وكما أن من المرضى من لا تعود إليه صحته أبداً لضعف عافيته، ومنهم من تعود صحته كما كانت لتقاوم الأسباب وتدافعها، ويعود البدن إلى كماله الأول، ومنهم من يعود أصح مما كان وأقوى وأنشط لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لأسباب الضعف والمرض، حتى ربما كان مرض هذا سبباً لعافيته، كما قال الشاعر:
لعل عتبك محمود عواقبهُ **** وربما صحتِ الأجسامُ بالعللِ
فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث.
علامات تعظيم المناهي:
وأما علامات تعظيم المناهي:
1- فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها.
2- أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه.
علامات تعظيم الأوامر والنواهي:
1- ألا يعارضا بترخص جافٍ، ولا يعارضا بتشديد غالٍ، فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه.
2- ألا يُحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه ، متمثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر.
والله الموفق، لا إله غيره، ولا رب سواه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، والصلاة والسلام على من فتح الله به باب المتاب، وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الإياب.
أما بعد:
فهذه كلمات يسيرة، وجمل من العلم قليلة، ولكنها في غاية الأهمية؛ لأنها الخطوط الرئيسة لمنهج أهل السنة والجماعة في السلوك، ومداواة النفوس وتزكيتها حتى تصل إلى حقيقة التقوى ونور المعرفة، وهي مختصرة من كلام الإمام العالم بعلل النفوس وأدوائها وطرق شفائها: ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى. وقد قسمنا كلامه رحمه الله إلى فقرات، ووضعنا لكل فقرة عنواناً مناسباً حتى لا يتشتت ذهن القارئ أو يمل خاطره.
عنوان السعادة:
ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن عنوان سعادة العبد ثلاثة أمور، وهي: أنه إذا أنعِم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.
قال: فإن الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها أبداً، فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاث:
الشكر على النعماء:
الأول: نعم من الله تعالى تترادف عليه، فقيّدها: الشكر.
أركان الشكر:
والشكر مبني على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطناً، والتحدث بها ظاهراً، وتصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها. فإذا فعل ذلك فقد شكرها مع تقصيره في شكرها.
الصبر على البلاء:
الثاني: محن من الله تعالى يبتليه بها، ففرضه فيها الصبر والتسلي.
أركان الصبر:
والصبر : حبس النفس عن التسخّط بالمقدور، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن المعصية، كاللطم، وشق الثياب، ونتف الشعر ونحو ذلك.
فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام بها العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوباً.
حكمة الابتلاء:
فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتل العبد ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية في الضرّاء، كما له عليه عبودية في السرّاء، وله عليه عبودية فيما يكره، كما له عليه عبودية فيما يحب، وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون، والشأن في إعطاء العبودية في المكاره؛ ففيه تفاوتت مراتب العباد، وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى، فالوضوء بالماء البارد في شده الحر عبودية، ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية، ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية، هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية، وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية، ونفقته في الضرّاء عبودية، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين.
فمن كان عبداً لله في الحالتين، قائماً بحقه في المكروه والمحبوب، فذلك الذي تناوله قوله تعالى: {ألَيسَ اللهُ بِكَافٍ عَبدَهُ} [سورة الزمر: 36]، وفي القراءة الأخرى: {عِبَادَهُ} وهما سواء، لأن المفرد مضاف، فيعم عموم الجمع.
فالكفاية التامة مع العبودية التامة، والناقصة مع الناقصة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.
إغواء الشيطان:
وهؤلاء هم عباده الذين ليس لعدوه عليهم سلطان، قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [سورة الإسراء: 65]. ولما علم عدو الله إبليس أن الله تعالى لا يسلمُ عبادهُ إليه، ولا يسلطه عليهم قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٨٢﴾ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [سورة ص: 82- 83]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٢٠﴾ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سورة سبأ: 20-21].
فلم يجعل لعدوه سلطان على عباده المؤمنين، فإنهم في حرزه وكلاءته وحفظه، وتحت كنفه، وإن اغتال عدوه أحدهم كما يغتال اللص الرجل الغافل، فهذا لا بد منه، لأن العبد قد ابتلي بالغفلة والشهوة والغضب، ودخوله على العبد من هذه الأبواب الثلاثة، ولو احترز العبد ما احترز، فلا بد له من غفلة، ولا بد له من شهوة، ولا بد له من غضب، وقد كان آدم أبو البشر صلى الله عليه وسلم من أحلم الخلق، وأرجحهم عقلاً، وأثبتهم، ومع هذا فلم يزل به عدو الله حتى أوقعه فيما أوقعه فيه، فما الظن بمن عقله في جنب عقل أبيه كتفلةٍ في البحر؟
نعمة فتح باب التوبة:
الثالث: التوبة والندم:
فإن أراد الله بعبده خيراً فتح له من أبواب التوبة، والندم والانكسار، والذل، والافتقار، والاستعانة به، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرع، والدعاء، والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات، ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته، حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه، وهذا معنى قول بعض السلف: "إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة، ويعمل الحسنة يدخل بها النار". قالوا: "كيف؟"، قال: "يعمل الذنب فلا يزال نُصب عينيه خائفاُ منه مشفقاُ وجلاً باكياً نادماً مستحياً من ربه تعالى، ناكس الرأس بين يديه، منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب سبب سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه، حتى يكون ذلك الذنب سبب دخوله الجنة".
آفة العجب والغرور:
ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه، ويتكبر بها، ويرى نفسه، ويعجب بها، ويستطيل بها، ويقول: فعلت، وفعلت، فيورثه ذلك من العجب والكبر، والفخر والاستطالة، ما يكون سبب هلاكه. فإذا أراد الله بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمر يكسره به، ويذل به عنقه، ويصغر به نفسه عنده، وإن أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه.
علامة التوفيق:
فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق: ألا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان: أن يكلك الله تعالى إلى نفسك.
فمن أراد الله به خيراً فتح له باب الذل والانكسار، ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه وجهلها وظلمها وعدوانها، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه، ورحمته، وجوده، وبره، وغناه، وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، ولا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما، فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه.
قال شيخ الإسلام: "العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل".
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» [رواه البخاري].
فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم: «أبوءُ لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي» بين مشاهدة المنة، ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار، والافتقار، والتوبة في كل وقت.
مدار العبودية
والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها:
حب كامل، وذلّ تام.
ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين، وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة، ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام، وإذا كان العبد قد بنى سلوكه إلى الله تعالى على هذين الأصلين لم يظفر عدوه به إلا على غرّة وغفلة، وما أسرع ما ينعشه الله عز وجل ويجبره ويتداركه برحمته.
عوامل استقامة القلب:
وإنما يستقيم له هذا باستقامة قلبه وجوارحه؛ فاستقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه، فرتب على ذلك مقتضاه، وما أسهل هذا بالدعوى، وما أصعبه بالفعل ، "فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان".
وما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه، أو يحبه كبيره وأميره وشيخه أو أهله على ما يحبه الله تعالى، فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابه، وينغصها عليه، ولا ينال شيئاً منها إلا بنكد وتنغيص، جزاءً له على إيثاره هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى.
الأمر الثاني: الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظمه ولا يعظم أمره ونهيه، قال سبحانه وتعالى: {مَّا لَكُم لاَتَرجُونَ للهِ وَقَاراً} [سورة نوح: 13]، قالوا في تفسيرها: "مالكم لا تخافون الله تعالى عظمة؟!.
حقيقة تعظيم الأمر والنهي:
وما أحسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الأمر والنهي:
"هو ألا يُعَارَضا بترخّص جافٍ، ولا يُعَارَضا بتشديدٍ غالٍ، ولا يحملا على علة تُوهنُ الانقياد".
ومعنى كلامه: أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه، وذلك لأن المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كافة الناس، ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصديق، وصحة العقيدة، والبراءة من النفاق الأكبر، فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع على المناهي، فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي.
علامات تعظيم الأوامر:
فعلامة التعظيم للأوامر:
- رعاية أوقاتها وحدودها.
- والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها.
- والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها.
- والمسارعة إليها عند وجوبها.
- والحزن والكآبة والأسف عند فوات حق من حقوقها.
تعظيم شأن الصلاة:
كمن يحزن على فوت الجماعة، ويعلم أنه لو تقبلت منه صلاته منفرداً، فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضِعفاً.
وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه، ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه، ولكانت قرعة.
وكذلك فوت الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى، الذي هو روحها ولبها؛ فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبداً ميتاً أو جارية ميتة؟، فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو أمير أو غيره، فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذا العبد - أو الأمة - الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك، ولهذا لايقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها، فإنه ليس للعبد من صلاة إلا ما عقل منها، كما في "السنن" و "مسند الإمام أحمد" وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، حتى قال: إلا عشرها» [حسنه الألباني].
التفاضل بحسب ما في القلوب:
وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر الذنوب تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة، وهما:
- تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان.
- وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه.
مفسدات الأعمال:
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه:
- فالرياء - وإن دق - محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر.
- وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً.
- والمنّ به على الله تعالى بقلبه مفسد له.
وكذلك المنّ بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أيُها الذِينَ أمَنُوا لاَ تُبطِلُوا صَدَقَاتَكُم بِالمَنِ والأذَى} [سورة البقرة: 264]، وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى: {يّا أيُها الذِينَ أمَنُوا لاَ تَرفَعُوا أصواتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبي وَلاَ تَجهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لبعض أن تحبط أعمالكم وَأنتُم لاَ تَشعُرُونَ} [سورة الحجرات: 2]. فحذر سبحانه المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجهر بعضهم لبعض ، وليس هذا بردةٍ ، بل معصية يحبط بها العمل، وصاحبها لا يشعر بها، فما الظن بمن ّقدم على قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟، أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله» [رواه البخاري].
فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد، ويحرص على عمله ويحذره.
وقد جاء في أثر معروف: وإن العبد ليعمل العمل سراً لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى، فيتحدث به، فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية، ثم يصير في ذلك الديوان على حسب العلانية، فإن تحدث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى أبطله كما لو فعله لذلك.
تدافع الحسنات والسيئات:
فإن قيل: فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟
* فالذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن الحسنات والسيئات تتدافع وتتقابل، ويكون الحكم فيها للغالب، وهو يقهر المغلوب، ويكون الحكم له، حتى كأن المغلوب لم يكن، فإذا غلبت على العبد الحسنات رفعت حسناته الكثيرة سيئاته، ومتى تاب من السيئة ترتّب على توبته منها حسنات كثيرة قد تربي وتزيد على الحسنة التي حبطت بالسيئة، فإذا عزمت التوبة وصحت، ونشأت من صميم القلب، أحرقت ما مرت عليه من السيئات، حتى كأنها لم تكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الذنوب أمراض القلوب:
يوضح هذا أن السيئات والذنوب هي أمراض قلبية، كما أن الحمى والأوجاع أمراض بدنية، والمريض إذا عوفي من مرضه عافية تامة عادت إليه قوته وأفضل منها حتى كأنه لم يضعف قط.
فالقوة المتقدمة بمنزلة الحسنات، والمرض بمنزلة الذنوب، والصحة والعافية بمنزلة التوبة سواء بسواء، وكما أن من المرضى من لا تعود إليه صحته أبداً لضعف عافيته، ومنهم من تعود صحته كما كانت لتقاوم الأسباب وتدافعها، ويعود البدن إلى كماله الأول، ومنهم من يعود أصح مما كان وأقوى وأنشط لقوة أسباب العافية وقهرها وغلبتها لأسباب الضعف والمرض، حتى ربما كان مرض هذا سبباً لعافيته، كما قال الشاعر:
لعل عتبك محمود عواقبهُ **** وربما صحتِ الأجسامُ بالعللِ
فهكذا العبد بعد التوبة على هذه المنازل الثلاث.
علامات تعظيم المناهي:
وأما علامات تعظيم المناهي:
1- فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها.
2- أن يغضب لله عز وجل إذا انتهكت محارمه.
علامات تعظيم الأوامر والنواهي:
1- ألا يعارضا بترخص جافٍ، ولا يعارضا بتشديد غالٍ، فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله عز وجل بسالكه.
2- ألا يُحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل، بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه ، متمثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر.
والله الموفق، لا إله غيره، ولا رب سواه.
اسم المؤلف: منتقاة من كلام ابن القيم