moalma
06-14-2007, 12:16 AM
http://upload.wikimedia.org/wikisource/ar/2/2b/FahdAlaskar.jpg
الشاعر.. فهد العسكر ورحلة الشقاء.. والشكّ.. والقلق
فهد العسكر.. قيثارة شعرية.. مترعة شجناً.. وقلقاً.. مفعمة ألماً.. وحزناً.. وأسىً، كان شعره صدى عميقاً لتقلبات حياته الحادة، ومنعطفاتها.. وتجلياتها..
سمعت شعره لأول مرة، وطربت له، مغنى بصوت خليجي ممتلئ دفئاً، وحرارة، وبحّة شجية، في تناغم بديع. ـ
وانسجام.. وتجلّ.. وكلمات، وصوتاً ولحناً.. وأداء..
كُفِّي الملامَ.. وعلِّليني
فالشكُّ أَوْدى باليَقِينِ
وتناهَبَتْ كَبدي الشجون
.. فَمَنْ مُجيري مِنْ شُجُوني؟
وعشت مع شعر فهد مرة أخرى من خلال نص في الثانوية العامة في دولة الكويت بعنوان "البلبل" الذي يرمز بشفافية إلى ذات الشاعر القلقة التي عاشت التحولات في الخليج العربي.. من شظف العيش، وضيقه.. إلى سعته، وبحبوحته.. ورغده.. كما شهد الانتقال من مجتمعات تضج بالتراث، وعبق التاريخ.. إلى مجتمعات تعصف بها رياح التغريب...
وَلْهانُ ذو خافِقٍ، رَقَّت حَواشيهِ
يَصْبو.. فتنشُرُهُ الذكرى.. وتَطْويه
كأنَّهُ وهو فوقَ الغُصْنِ مُضْطرب
قلبُ المشوقِ... وقَد جَدَّ الهوى فيهِ
رَأى الربيعَ، وقَد أَوْدَى الخريفُ به
بينَ الطيور.. كَمَيتٍ بَيْنَ أهْليهِ
حيرانُ.. ما انفَكَّ مَذْهُولاً.. كَمُتَّهمٍ
لم يَجْنِ ذَنْبَاً.. ولم يَنْجَحْ مُحاميهِ
الشاعر فهد العسكر.. اسم إشكالي بحدّ ذاته، ومثار اختلاف بين مجايليه، تتصارع حوله الآراء، وتتشابك الخطوط، فيتداخل الشخصي ـ الذاتي بالأدبي ـ الفكري ـ الاجتماعي، ولعل مما يزيد الأمر تعقيداً، هو طبيعة المرحلة التي عاش فيها الشاعر، من ضيق أفق، وأن الناس يعرفون بعضهم بشكل جيد، ويرون بعضهم بعيون مفتوحة للآخر... تراقب.. تحصي.. وربما لا ترى سوى المثالب، والسلبيات.. وفي هكذا مجتمعات محدودة.. الويل لمن تزلّ قدمه، ويقع في المحظور.. أو يحيد عن الدروب المرسومة بصرامة.. وعسف.. وربما.. بضيق أفق..
دخولاً.. في الإشكالية..
لقد توافر فهد على خط من التنوير، سبق زمنه، وجيله، وواقعه، لم يحقق بذاته، ولا يمكن أن يحقق، فيما أرى، ولم يحقق بأمثاله حالة تنوير تنهض بالمجتمع، فهو، وهم، أفراد مبعثرون، مشتتون.. لم يتكيّفوا مع أوضاع المجتمع، ولم ينتظروا نضوج الظروف الموضوعية، وسياقات التطور المجتمعي الطبيعي التاريخي.. فانقطعوا عن المجموع، واحتار المجتمع في توصيفهم فاختار لهم وصوفات قاسية، مدمرة اجتماعياً، تتراوح بين الكفر، والإلحاد، وربما الزندقة.. وبين العقوق، والخروج على مواضعات المجتمع... ونواميسه.. ولعل أخطر ما في هذه السياقات، هو سهولة إطلاق التهم، والتي شكلت معاناة حقيقية للشاعر.. ربما كان الرجل يتمتع بشيء من التحرر الفكري، يطلق معه العنان لعقله، يفكر، يتأمل.. يشك.. ربما كان متحرراً إلى حد ما من القيود التي فرضتها البيئة بكل صرامة.. ربما كانت روحه توّاقة إلى التمرد، والانعتاق من ربقة الماضوي.. لكن.. هل هذه، وتلك.. مدعاة لإلصاق مثل هذه التهم المدمرة؟
ولادته.. دراسته.. نشأته..
فهد بن صالح بن محمد العسكر، من مواليد دولة الكويت في العام 1917 على الأرجح، في المنطقة التي كانت تسمى "سكة عنزة"، حيث كان تجمع الأغنام فيها صباحاً، ليسرح بها راعي الغنم "الشاوي"، كما يسميه الكويتيون، ويعود بها في المساء.
يرجع نسبه إلى قبيلة "عنزة"، أجداده من "نجد" كان جده "محمد" تاجر غنم، وإبل، كثير التنقل بين الرياض، والكويت، وقد شجعه الشيخ "دعيج الصباح" على الاستقرار في الكويت، بعد أن توطدت بينهما أواصر الصداقة.
درس فهد في المدرسة "المباركية"، أول مدرسة نظامية في الكويت، تتلمذ على يد أساتذة أجلاّء، منهم الشيخ "عبد الله النوري"، وقد قرأ دواوين الشعر العربي مبكراً..
نشأ في بيت كان محافظاً شديد المحافظة على العادات والتقاليد، وكان والداه متدينين، فشب فهد متديناً أشد التدين..
قال الشعر مبكراً، وقد كتب قصيدة مدح فيها الملك "عبد العزيز"، غناها المطرب الكويتي المشهور "عبد اللطيف الكويتي"، ولمّا وصلت القصيدة إلى أسماع الملك، دعاه إلى زيارة الرياض، وهكذا كان، وقد كان فهد يمنّي النفس، ويرسم الآمال العريضة، لكنه أحبط عندما جاء العرض للعمل كاتباً لدى أحد أبناء الملك.. على حدود اليمن.. فاعتذر عن المهمة.. وعاد إلى الكويت، يجرجر أذيال الخيبة..
التحوّل..
بدأ فهد يتردد على مكتبة الكويت الأولى "مكتبة ابن رويّح"، وكان يستعير منها الكتب، ويقرأ.. ويقرأ بنهم، فحصل لديه نوع من التغيّر في أفكاره، وأخذت نظرته إلى الحياة تتغير، وبدأ تشدده في الدين يضعف، ويضعف شيئاً فشيئاً إلى أن تحول كلياً.. في تفكيره.. وفي نظرته إلى الحياة.. إلى العادات، والتقاليد الموروثة.. واَكَب ذلك معاقرة للخمرة، بل، وتغنى بها..
صهرْتُ في قَدح الصَّهباءِ أحْزاني
وَصَغْتُ من ذَوْبها شِعْري، وأَلحاني
وبِتُّ في غَلَسِ الظلمَاء.. أُرْسلُها
من غَوْرِ رُوحي، ومِنْ أَعْمَاقِ وِجْداني
يا ساقيَ الخَمْر، لا شُلَّتْ يَدَاكَ، أََدِرْ
بنتَ النَخيلِ.. فإنَّ الصحوَ أضْناني
تراقَصَ الحَبَبُ المِمْراحُ في قَدَحي
فأينَ.. أينَ الكَرى من جفنِ سَكْرانِ؟
لقد أغرق فهد في الكتب التي تحمل طابع التحرر، وتعرض أفكار المفكرين من أدباء، وفلاسفة في الشرق، والغرب، فأخذت روح التدين، تضمحل عنده، وطفق يتخلى عن تعصبه الشديد، وتدينه، وبدأ يضمّن شعره بعض آرائه في الدين، والحياة، فيأتي بأفكار تحررية، لم يعهدها الناس عنده.. هكذا استمر الحال،إلى أن فقد التدين تماماً، وطلّق حياة التدين.. طلاقاً لا رجعة فيه.
الاتهامات.. ودفاع عن النفس..
بدأ فهد، وكأنه يغرّد خارج السرب.. هو ماض في طريق اختاره، وأهله، وذووه، ومجتمعه.. يضيقون ذرعاً به، هو يضرب عرض الحائط بكل ما يصدر عنهم، فيبعدونه، ويتبرؤون منه.. وكيف يصبرون على هذه الموجات الصاخبة من اللوم التي يوجهها هذا الثائر المتطرف؟ لقد تحدى أفكارهم، وآراءهم، بل حتى تقاليدهم، وعاداتهم الموروثة.. فرأوا فيه ابناً عاقاً، انحرفت بعقله الكتب الحديثة، والآراء المتطرفة، والشعر الماجن، فانجرف وراءها.. لكنه ما لبث أن شعر بوطأة الاتهامات التي كالوها له، فعبّر عن المشهد في قصيدته الشهيرة "شهيق وزفير" التي نظمها العام 1946، والتي تعتبر من عيون شعره..، وهاهو يعرّض بأولئك النفر الذين نكدوا عليه عيشه:
وَهُنَاكَ مِنْهُم مَعْشَرٌ
أُفٍّ لَهُمْ.. كَمْ ضَايَقُوني!!
هَذا رَمَاني بالشذوذِ
وذا رَمَاني بالجُنونِ
وَهُناك مِنْهمُ من رَمَـ
ـاني بالخَلاعَةِ، والمُجُونِ
وَتطاوَلَ المتعصّبُون
وما كَفَرْتُ.. وكَفَّرُوني
إنه يشكو شكوى مريرة، ويبدي ضيقه، وبرمه من خصومه، عبّر عنه باسم الفعل "أفٍّ" المفعم توجعاً، وألماً، لقد نفّس عن مكنونات صدره، واحتقاناته، فزفر "أفٍّ" ليفرغ تلك الشحنات، وذلك الأسى، ومن أجل التأكيد على المضمون لمن فاته شيء من دلالات "أفٍّ"، أتى بـ "كم ضايقوني" إنه يخبر بـ "كم" عن كثرة ما ضايقوه، ونكدّوا عليه عيشه، ورموه بالثقيل من التهم، من "الشذوذ" و"الجنون" و"الخلاعة"، و"المجون"، و"الكفر" ولا أدري هل تركوا شيئاً لمستزيد ممن يرومون اتهام الشاعر؟ إنَّها اتهامات كافية للإطاحة بأي رأس.. وبأكبر رأس في مجتمع محافظ، يتمسّك بالدين، ويحافظ على التقاليد..
لم يستسلم فهد، ودافع عن نفسه، ونافح عن رأسه، الذي، بدا وكأنّه مطلوب طعمة لسيف السّياف.. بداعي الكفر.. والارتداد عن الدين، وهو قَدْ دفع أكبر التهم عن نفسه، وهي تهمة "الكفر"، وهي كافية في الشرع الإسلامي، ولعلّه قَدْ رأى لهجوماتهم أسباباً أخرى..
وأَنا الأبيُّ النفسِ
ذُو الوجْدانِ.. والشرفِ المصونِ
اللهُ يَشْهَدُ لي، وَمَا
أنا بالذّلَيلَ المسْتَكينِ
لا درّ درّهُمُ، فلَوْ
حُزْنُ النُّضار.. لأَلَّهُوني
أو بعْتُ وجداني بأَ
سْواقِ النفاقِ.. لأَكْرَمُوني
أو رُحْتُ أحْرِقُ في الـ
دواوينَ البخورَ.. لأَنْصَفُوني
فَعرَفْتُ ذَنبي.. أنَّ كَبْ
شِي، ليسَ بالكبشِ السَّمينِ
يا قَوْمُ.. كُفُّوا.. دِيْنُكُمُ
لكُمُ.. ولَي يا قَوْمُ.. دِيني
يتبع
الشاعر.. فهد العسكر ورحلة الشقاء.. والشكّ.. والقلق
فهد العسكر.. قيثارة شعرية.. مترعة شجناً.. وقلقاً.. مفعمة ألماً.. وحزناً.. وأسىً، كان شعره صدى عميقاً لتقلبات حياته الحادة، ومنعطفاتها.. وتجلياتها..
سمعت شعره لأول مرة، وطربت له، مغنى بصوت خليجي ممتلئ دفئاً، وحرارة، وبحّة شجية، في تناغم بديع. ـ
وانسجام.. وتجلّ.. وكلمات، وصوتاً ولحناً.. وأداء..
كُفِّي الملامَ.. وعلِّليني
فالشكُّ أَوْدى باليَقِينِ
وتناهَبَتْ كَبدي الشجون
.. فَمَنْ مُجيري مِنْ شُجُوني؟
وعشت مع شعر فهد مرة أخرى من خلال نص في الثانوية العامة في دولة الكويت بعنوان "البلبل" الذي يرمز بشفافية إلى ذات الشاعر القلقة التي عاشت التحولات في الخليج العربي.. من شظف العيش، وضيقه.. إلى سعته، وبحبوحته.. ورغده.. كما شهد الانتقال من مجتمعات تضج بالتراث، وعبق التاريخ.. إلى مجتمعات تعصف بها رياح التغريب...
وَلْهانُ ذو خافِقٍ، رَقَّت حَواشيهِ
يَصْبو.. فتنشُرُهُ الذكرى.. وتَطْويه
كأنَّهُ وهو فوقَ الغُصْنِ مُضْطرب
قلبُ المشوقِ... وقَد جَدَّ الهوى فيهِ
رَأى الربيعَ، وقَد أَوْدَى الخريفُ به
بينَ الطيور.. كَمَيتٍ بَيْنَ أهْليهِ
حيرانُ.. ما انفَكَّ مَذْهُولاً.. كَمُتَّهمٍ
لم يَجْنِ ذَنْبَاً.. ولم يَنْجَحْ مُحاميهِ
الشاعر فهد العسكر.. اسم إشكالي بحدّ ذاته، ومثار اختلاف بين مجايليه، تتصارع حوله الآراء، وتتشابك الخطوط، فيتداخل الشخصي ـ الذاتي بالأدبي ـ الفكري ـ الاجتماعي، ولعل مما يزيد الأمر تعقيداً، هو طبيعة المرحلة التي عاش فيها الشاعر، من ضيق أفق، وأن الناس يعرفون بعضهم بشكل جيد، ويرون بعضهم بعيون مفتوحة للآخر... تراقب.. تحصي.. وربما لا ترى سوى المثالب، والسلبيات.. وفي هكذا مجتمعات محدودة.. الويل لمن تزلّ قدمه، ويقع في المحظور.. أو يحيد عن الدروب المرسومة بصرامة.. وعسف.. وربما.. بضيق أفق..
دخولاً.. في الإشكالية..
لقد توافر فهد على خط من التنوير، سبق زمنه، وجيله، وواقعه، لم يحقق بذاته، ولا يمكن أن يحقق، فيما أرى، ولم يحقق بأمثاله حالة تنوير تنهض بالمجتمع، فهو، وهم، أفراد مبعثرون، مشتتون.. لم يتكيّفوا مع أوضاع المجتمع، ولم ينتظروا نضوج الظروف الموضوعية، وسياقات التطور المجتمعي الطبيعي التاريخي.. فانقطعوا عن المجموع، واحتار المجتمع في توصيفهم فاختار لهم وصوفات قاسية، مدمرة اجتماعياً، تتراوح بين الكفر، والإلحاد، وربما الزندقة.. وبين العقوق، والخروج على مواضعات المجتمع... ونواميسه.. ولعل أخطر ما في هذه السياقات، هو سهولة إطلاق التهم، والتي شكلت معاناة حقيقية للشاعر.. ربما كان الرجل يتمتع بشيء من التحرر الفكري، يطلق معه العنان لعقله، يفكر، يتأمل.. يشك.. ربما كان متحرراً إلى حد ما من القيود التي فرضتها البيئة بكل صرامة.. ربما كانت روحه توّاقة إلى التمرد، والانعتاق من ربقة الماضوي.. لكن.. هل هذه، وتلك.. مدعاة لإلصاق مثل هذه التهم المدمرة؟
ولادته.. دراسته.. نشأته..
فهد بن صالح بن محمد العسكر، من مواليد دولة الكويت في العام 1917 على الأرجح، في المنطقة التي كانت تسمى "سكة عنزة"، حيث كان تجمع الأغنام فيها صباحاً، ليسرح بها راعي الغنم "الشاوي"، كما يسميه الكويتيون، ويعود بها في المساء.
يرجع نسبه إلى قبيلة "عنزة"، أجداده من "نجد" كان جده "محمد" تاجر غنم، وإبل، كثير التنقل بين الرياض، والكويت، وقد شجعه الشيخ "دعيج الصباح" على الاستقرار في الكويت، بعد أن توطدت بينهما أواصر الصداقة.
درس فهد في المدرسة "المباركية"، أول مدرسة نظامية في الكويت، تتلمذ على يد أساتذة أجلاّء، منهم الشيخ "عبد الله النوري"، وقد قرأ دواوين الشعر العربي مبكراً..
نشأ في بيت كان محافظاً شديد المحافظة على العادات والتقاليد، وكان والداه متدينين، فشب فهد متديناً أشد التدين..
قال الشعر مبكراً، وقد كتب قصيدة مدح فيها الملك "عبد العزيز"، غناها المطرب الكويتي المشهور "عبد اللطيف الكويتي"، ولمّا وصلت القصيدة إلى أسماع الملك، دعاه إلى زيارة الرياض، وهكذا كان، وقد كان فهد يمنّي النفس، ويرسم الآمال العريضة، لكنه أحبط عندما جاء العرض للعمل كاتباً لدى أحد أبناء الملك.. على حدود اليمن.. فاعتذر عن المهمة.. وعاد إلى الكويت، يجرجر أذيال الخيبة..
التحوّل..
بدأ فهد يتردد على مكتبة الكويت الأولى "مكتبة ابن رويّح"، وكان يستعير منها الكتب، ويقرأ.. ويقرأ بنهم، فحصل لديه نوع من التغيّر في أفكاره، وأخذت نظرته إلى الحياة تتغير، وبدأ تشدده في الدين يضعف، ويضعف شيئاً فشيئاً إلى أن تحول كلياً.. في تفكيره.. وفي نظرته إلى الحياة.. إلى العادات، والتقاليد الموروثة.. واَكَب ذلك معاقرة للخمرة، بل، وتغنى بها..
صهرْتُ في قَدح الصَّهباءِ أحْزاني
وَصَغْتُ من ذَوْبها شِعْري، وأَلحاني
وبِتُّ في غَلَسِ الظلمَاء.. أُرْسلُها
من غَوْرِ رُوحي، ومِنْ أَعْمَاقِ وِجْداني
يا ساقيَ الخَمْر، لا شُلَّتْ يَدَاكَ، أََدِرْ
بنتَ النَخيلِ.. فإنَّ الصحوَ أضْناني
تراقَصَ الحَبَبُ المِمْراحُ في قَدَحي
فأينَ.. أينَ الكَرى من جفنِ سَكْرانِ؟
لقد أغرق فهد في الكتب التي تحمل طابع التحرر، وتعرض أفكار المفكرين من أدباء، وفلاسفة في الشرق، والغرب، فأخذت روح التدين، تضمحل عنده، وطفق يتخلى عن تعصبه الشديد، وتدينه، وبدأ يضمّن شعره بعض آرائه في الدين، والحياة، فيأتي بأفكار تحررية، لم يعهدها الناس عنده.. هكذا استمر الحال،إلى أن فقد التدين تماماً، وطلّق حياة التدين.. طلاقاً لا رجعة فيه.
الاتهامات.. ودفاع عن النفس..
بدأ فهد، وكأنه يغرّد خارج السرب.. هو ماض في طريق اختاره، وأهله، وذووه، ومجتمعه.. يضيقون ذرعاً به، هو يضرب عرض الحائط بكل ما يصدر عنهم، فيبعدونه، ويتبرؤون منه.. وكيف يصبرون على هذه الموجات الصاخبة من اللوم التي يوجهها هذا الثائر المتطرف؟ لقد تحدى أفكارهم، وآراءهم، بل حتى تقاليدهم، وعاداتهم الموروثة.. فرأوا فيه ابناً عاقاً، انحرفت بعقله الكتب الحديثة، والآراء المتطرفة، والشعر الماجن، فانجرف وراءها.. لكنه ما لبث أن شعر بوطأة الاتهامات التي كالوها له، فعبّر عن المشهد في قصيدته الشهيرة "شهيق وزفير" التي نظمها العام 1946، والتي تعتبر من عيون شعره..، وهاهو يعرّض بأولئك النفر الذين نكدوا عليه عيشه:
وَهُنَاكَ مِنْهُم مَعْشَرٌ
أُفٍّ لَهُمْ.. كَمْ ضَايَقُوني!!
هَذا رَمَاني بالشذوذِ
وذا رَمَاني بالجُنونِ
وَهُناك مِنْهمُ من رَمَـ
ـاني بالخَلاعَةِ، والمُجُونِ
وَتطاوَلَ المتعصّبُون
وما كَفَرْتُ.. وكَفَّرُوني
إنه يشكو شكوى مريرة، ويبدي ضيقه، وبرمه من خصومه، عبّر عنه باسم الفعل "أفٍّ" المفعم توجعاً، وألماً، لقد نفّس عن مكنونات صدره، واحتقاناته، فزفر "أفٍّ" ليفرغ تلك الشحنات، وذلك الأسى، ومن أجل التأكيد على المضمون لمن فاته شيء من دلالات "أفٍّ"، أتى بـ "كم ضايقوني" إنه يخبر بـ "كم" عن كثرة ما ضايقوه، ونكدّوا عليه عيشه، ورموه بالثقيل من التهم، من "الشذوذ" و"الجنون" و"الخلاعة"، و"المجون"، و"الكفر" ولا أدري هل تركوا شيئاً لمستزيد ممن يرومون اتهام الشاعر؟ إنَّها اتهامات كافية للإطاحة بأي رأس.. وبأكبر رأس في مجتمع محافظ، يتمسّك بالدين، ويحافظ على التقاليد..
لم يستسلم فهد، ودافع عن نفسه، ونافح عن رأسه، الذي، بدا وكأنّه مطلوب طعمة لسيف السّياف.. بداعي الكفر.. والارتداد عن الدين، وهو قَدْ دفع أكبر التهم عن نفسه، وهي تهمة "الكفر"، وهي كافية في الشرع الإسلامي، ولعلّه قَدْ رأى لهجوماتهم أسباباً أخرى..
وأَنا الأبيُّ النفسِ
ذُو الوجْدانِ.. والشرفِ المصونِ
اللهُ يَشْهَدُ لي، وَمَا
أنا بالذّلَيلَ المسْتَكينِ
لا درّ درّهُمُ، فلَوْ
حُزْنُ النُّضار.. لأَلَّهُوني
أو بعْتُ وجداني بأَ
سْواقِ النفاقِ.. لأَكْرَمُوني
أو رُحْتُ أحْرِقُ في الـ
دواوينَ البخورَ.. لأَنْصَفُوني
فَعرَفْتُ ذَنبي.. أنَّ كَبْ
شِي، ليسَ بالكبشِ السَّمينِ
يا قَوْمُ.. كُفُّوا.. دِيْنُكُمُ
لكُمُ.. ولَي يا قَوْمُ.. دِيني
يتبع