فيصل الملوحي
07-30-2009, 09:28 AM
رأينا صواب يحتمل الخطأ
و رأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب
الخرافة
وفي الزوايا
بقايا من بقاياها
كتبها: فيصل الملوحي
ملحوظة: القارئ الكريم
أرجو أن تقرأ البحث كاملا غير مجزّأ، و ألا تكتفي بجزئية دون أخرى، فالكلام المبتور يؤدي إلى أحكام باطلة. و أنت أعلم بدقة التمييز في عناصر هذا البحث بالذات.
عذرا، نزار.. فأنت الشاعر الموهوب، غير المبرّأ من العيوب. اعذرني فقد ( لطشت ) العنوان من قصيدة لك مغنّاة، فقد قلبت الإحساس الذي تحمّلـــــه هذه العبارة من جمــال في المحبــوب و حنين إليه، فكان إحساساً بقبح بقايا الخرافة المعششة في زوايا من مجتمعنا، والنفور منها.
و لا تلوموني أيها القرّاء الكرام على هذا الخلط بين النثر والشعر، و العلم والخيال، ففي الشعر خرافة أو بقية من بقاياها تمتزج بالمبادئ، و حلاوة الخيال في وهم يعاشره، ويغشى العلم والفكر فيلقحهما.
وليس غريباً أن يلتقي الضدّ بالضدّ في عقل الإنسان. والدليل هذه ( الدردشات - في اللغة الصحفية )، أو قول النديم للنديم في جلسة من ( التبسّط ) و إلقاء الهموم. فليس كل ما يقال يوافق الحقيقة، لأن كل طرف يريد أن يرتاح من أعبائه وهمومه، فليس المقام مقام براهين عقلية، أو إثباتات بالأدلة المنطقيّة.
كثيرون في القديم والحديث يؤمنون بالخرافة: العالم والجاهل، المتديّن والمارق. ليس بعيدا عنّا ما يفعله محترمون في المجتمع حين يلجؤون إلى العراّفين والمنجمين ( يؤسفني أن يبقى لفظ التنجيم بمعناه القديم، ونحن نعلم اليوم أن للنجوم علوماً – أو نظريّات علميّة – يحاول العلماء أن يقدّموا لها أدلتهم ).
بيد أن أخطر الخرافة ما يُربط بالدين، و يُحرّف العلم، و ما قصص الخيال العلمي عنا ببعيدة، فهي تقدّم لتسلية الصغار – بله الكبار – وليس لي اعتراض عليها، ولكني أضرب المثل لأبيّن أنّ العلم قد يختلط بالخرافة في أذهان بعض العلماء، و بعض العامّة.
لست أُُعنى هنا بالبحث في الأصول التاريخية لنشأة الخرافة، ولن أضرب أمثلة – مضت - للتديّن المنحرف، حين مُزجت بالدين – والدين منها بريء - ولادّعاءات علمية أوهمت الناس، فبجّلوا من سمَّوهم رجال دين و ورجال علم.
بين أيدينا مصنّفات كثيرة في هذا الموضوع، ولكني أُحبّ أن أشير - هنا – إلى أن بعضاً منها تجنّى على العلم والدين، فخلط الدين بالتديّن المنحرف، والعلم ب( التعالم ). و أخطرها ما خلط الخرافة بالشرائع السماوية التي أوحى بها مبدع الوجود إلى أنبيائه، وسطّرها في كتبه المنزّلة كالقرآن الكريم المحفوظ من التغيّر والتبدّل، الذي يثبت كل يوم أنّه كلام الله المعجز.
إنّما نريد أن نبيّن أثر الخرافة في التدين الواقعي – وليس في الدين ذي الأصول الثابتة الصحيحة _، وفي النظريات الباطلـــة التي تدّعي لنفسها العلم، و أنّها تهتدي بهداه في فكرهـــا و منهجها..
التديّن: لا شكّ أن التدين جِبِلَّة في نفس الإنسان، خُلقت مع خلقه و نفخ الروح فيه..
ينوي الإنسـان أن يلتزم الدين.. فإمّا أن ينجح فيما يرمي إليه فيتطابق تديّنه مع الدين المختار، أو أن يُخفق فيبتعد ابتعاداً تختلف ( درجاته ) من إنسان إلى آخر..
المشكلة أن عوائق كثيرة تمنع هذا الإنسان الالتزام الصحيح بالدين، من أبرزها الخرافة التي هي من نوازع النفس البشريّة التي تتأرجح بين الخير والشرّ، فيسير على هدى عقيدة منحرفة ويسلك سلوكاً شاذّا..
كل المثقّفين قرؤوا عن الخرافة في كتب السلف ( السلف: الآباء والأجداد الأقدمون ). أما في هذا العصر فلدينا بقايا أخطر و أعمق من الخرافة لأنها تتخذ من العلم لسانا لترويجها، و من الدين درءاً لتمكينها في النفوس.. فيضل الباحث عن الحق، ويسيّر في طريق رسمها له آخرون – ذوو نوايا حسنة أو نوايا خبيثة – ويقف من يريد أن يدفع عن الحق التشويه موقف العسر – و إن مع العسر يسرا – فلا يتمكّن من البيان - فمروّجو الخرافة لعبوا بمعاني الألفاظ - و لا يجد منفذا لتصحيح هذا التحريف لأن كل من سينتقدهم و يبيّن تهافتهم جاهل مارق !!
يقولون: العقل البشريّ قاصر محدود، وهذه حقيقة ليس لإنسان أن يردّها، و العقول البشريّة تتفاوت، و أرقاها لا يصل إلى الكمال، و لابدّ من التسليم بما جاء في الكتب السماوية الصحيحة، و بالوحي الذي تلقّاه الأنبياء نصّاً ومعنى، فهي لا تخالف العقل، و إنما قد يقصر العقل عن إثباتها أو نفيها، و قد لا يتمكّن خيال الإنسان من تصوّرها.. فالملائكة حقيقة، ولكن العقل لا يتصور شكلها و لا يقدر على إثبات وجودها على مدى حياة الإنسان على الأرض. وهناك ما يعجز عنه عقل الإنسان مع احتمال الوصول إليه في الحياة الدنيا، كالأجرام السماوية البعيدة.
و لكن هل تجيز لنا هذه المقدّمة أن يدّعي آخرون قدرتهم على هذا العمل – ولكن بعد تحريف معاني الألفاظ !! – فيُلغوا عقول الآخرين استناداً إلى هذه الحدود المرسومة لها ؟!
ما من عاقل متزن بريء من الهوى و المصلحة الشخصية يلغي عقله ويستسلم لهؤلاء المدّعين. الواجب أن يحضر العقل كل أمر يقتضي التفكير، و ليس لأحد – مهما كان كبيرا – أن يوهمه بأفكار، و يلزمه بأمور تجعل منه ( ميتاً بين يدي غاسله ).
كثيرون من أولي العلم ينتقدون ( فريقاً ) من المتصوّفة لأن المريد – عند هذا الفريق – دمية بين يدي شيخه، ليس لعقله عمل، و إنّما يتغذّى خياله بخرافات !!
ولكن، فلنسأل أنفسنا: هل نجا هؤلاء المعتدلون !! – منتقدو هذا الفريق من المتصوفة – مما يفعله شيخ هذا الفريق المتصوف ؟ ! ألا يسيطرون على أتباعهم، فيردّدون ما يقولون دون وعي أو تمحيص، و لا يقبلون من أحد أن يخالفهم، فهم في قرارة نفوسهم معصومون ( دون أن يجرؤوا على البوح بهذا اللفظ لخشيتهم من اتهامهم بالمروق !! ).
سيقولون: على المقلّد أن يُجلّ العلماء، و يأخذ بكلام واحد منهم، فهم القادرون على البحث والاجتهاد.
وهذه حقيقة نقرّ بها، ونلتزم العمل بها، و لكن لا نقبل أبداً أن يتحوّل المقلّد إلى منافح مبارز، يدافع عن رأي إمامه بالحجة والبرهان ( و قد قدمنا أنه غير قادر على البحث والاجتهاد، وفرضنا عليه التقليد ). و لكنه بفعله هذا ينطلق من خرافة العصر حين ثقّفه شيخه بالشريعة، وصار حطّاب ليل ( جامع معلومات متناثرة )، فظن نفسه عالما – دون شيخه طبعا - وهو لا يتمكن من بناء الفروع على الأصول، وشيخه أقدر منه على فهم كلامي هذا إذا كان عالما !!-.
و يتعدّد الأئمة، وتتعدد الجماعات، تؤمن كل جماعة بخرافة مماثلة تلقتها على يدي الشيخ الكريم، فتكيد كل جماعة للأخرى، وتتصارع، وتفتي لنفسها بما يعزز موقفها أمام الخصم، فيضيع المجتمع بين فئات متناحرة متنابذة – وقد أشار إلى هذا شيخ له أتباعه، ونسي أنه واقع في المرض نفسه -.
نحن لا ننكر، فالعامي – ومثله المثقف ثقافة دينية – مضطر إلى التقليد، ولكن أرجوكم ألا تعودوا بنا إلى عصر التعصب للمذاهب و لأئمتها فقد وقعتم فيه بصيغة عصرية !
يقولون: اتركوا لكل اختصاصـه، فالعالم في الدين لا يفتي إلا في الدين، و الطبيب يعالج المرضى و لا يتكلم إلا في الطب، والمهندس لتخطيطه و عمرانه..
نحن مع هذا الرأي لأنه ضرورة ماسة، فليس من المعقول أن يتكلّم الإنسان فيما يجهله.
و لكن الواقع غير هذا ونقيضه. لقد اختلطت الأمور، فلم يعد عالم الدين – إذا كان عالماً بالدين - يعرف حدوده، بل أخذ يفصّل – مثلاً – في مركب كيمياوي ( كالجيلاتين ) الحيواني، ويصف تطوره من حالته الأولى في الخنزير إلى و ضعه الجديد، كما يفعل الكيمياوي في الحديث عن تحول سكر العنب إلى خمرة مسكرة ثم إلى خل لاذع..ثم يفتي بناء على علمه الكيمياوي بجواز ( الجيلاتين ) الحيواني أو حرمته، وويل ثم ويل لأيّ كيمياوي يتصدى لهذا التحليل الكيمياوي، أو لأي إنسان يتوقف عن القبول به.
نحن لا نلغي معرفة هذا العالم، ولكن هذه المعرفة في غير اختصاصه، وهي ثقافة عامة يتلقاها مثل غيره من قراءة الكتب العامة و الصحف المنتشرة.. و الأَوْلى أن يجتمع المختصّون العلميون الموثوقون، ويعطوا نتيجة علمية، ثم يبني المفتي – أو جماعة المفتين – الفتوى على هذه النتيجة بالحل أو الحرمة. (أعجبني أمس داعية كريم في رفضه الربط بين معنى الشهاب الوارد في القرآن الكريم و المعنى العلمي للشهاب، وقال: أترك التفسير العلمي لأهله).
نكتفي بهذا الحديث عن علماء الشرع الذين يحاولون تسلق جدار العلوم العصرية، و ننتقل إلى دارسي هذه العلوم. لم تختلف الصورة إلا كما يختلف الشكلان المتناظران ( في الهندسة ). لقد حملوا الأجازات العلمية ( licence.. )، أو تعمقوها فصاروا علماء بحّاثة، تثقفوا في علوم الدين – قبل العلوم العصرية، أو بعدها، كانت ثقافة شرعية لا تمكنهم من إتقان الأصول ليبنوا عليها الفروع، وتسلّقوا جدار الدعوة والإفتاء – رغم أنهم ينفون عن أنفسهم القدرة على الإفتاء، و ما هم بزعمهم سوى دعاة، كأنما يكفي إمام الدعوة أن يكون له اطلاع مبتور في الدين !! – فتصرفوا بأهواء المريدين تصرف المعصوم من الخطأ ( و اعذروني فما من أحد يجرؤ على تلقيب نفسه بهذا اللقب، و لكنني أصف الواقع ) وليس بعيداً عنا أمر شيختنا الفاضلة إلى مريداتها بتجنب النوم فرب الحائط لأنه ذكر !! ( هذا ما شاع بين المريدات، و نترك الحقيقة لعلام الغيوب )، أو تيسير ذلك الشيخ أتباعه إلى الموت ( إنه شهادة – حسب زعمه – في سبيل الله )، و هو قابع في قصره المشيد المحروس بالرجال و أرقى الأجهزة الحديثة، و هل تقبلون أن يقضيَ الأعداء على نفائس العلم !!
للعبودية وجهان: وجه المستعبِد، ووجه المستعبَد، و الخرافة عبودية ( يفبركها ) المستعبِد ليأخذ بها المستعبَد.
رجائي إلى:
١ – العلماء الذين تجاوزوا علومهم الشرعية إلى علو م الكون :
آ – أن يخلصوا دينهم لله ( و لا حاجة إلى الغضب من هذه الكلمة، فكلنا نحتاج دائماً إلى من يذكّرنا بقوله: اتق الله ).
ب – أن يعتزّوا باطلاعهم على العلوم الكونية، بدون أن يكون هذا الاطلاع عذرا يجيز لهم الحديث في هذه العلوم حديث العالم المتخصّص.
ج – ألا يستعينوا في وعظهم وإرشادهم بالخرافة القائمة على قصص يردّدها العامّة و بعضها تخالف العقيدة، فتعشش في عقول الناس !!
٢ – دارسي العلوم الكونية الذين تجاوزوا هذه العلوم إلى الدعوة والإرشاد :
آ – أن يخلصوا دينهم لله ( و لا حاجة إلى الغضب من هذه الكلمة، فكلنا نحتاج دائماً إلى من يذكّرنا بقوله: اتق الله ).
ب – أن يعتزّوا باطلاعهم على العلوم الشرعية، بدون أن يكون هذا الاطلاع عذرا يجيز لهم الإفتاء و توجيه الأتباع إلى الالتزام بما يأخذون به من أحكام.
ج – ألا يستعينوا في وعظهم وإرشادهم بالخرافة القائمة على أوهام في الجمع بين النظريات العلمية و ما جاء في القرآن الكريم ( وإن كنا نؤكّد على ورود إشارات علمية في القرآن الكريم تزيد في اطمئنان المؤمن نشير إليها الآن )، فتعشش في عقول الناس !!
ثم رجائي إلى:
الفريقين ألا تكون لكل شيخ طائفة تحارب الطوائف الأخرى.
الإشارات العلمية في القرآن الكريم:
ينطلق هؤلاء من حسن النية (وواجبنا تحسين الظن بالناس ما أمكن )، و أن القرآن الكريم وحي من عند الله – تعالى -. و لا يشكّ مسلم و لا عاقل بهذا، و إنما الاختلاف بيننا وبينهم أنهم يحسون بضرورة دعم هذه الفكرة بالإكثار من تقريب العلم للدين - أو العكس -، و ما يقوله علماء الكون للقرآن الكريم.
دارسو العلوم الكونية الذين صاروا علماء شرع بقدرة قادر !! يتوسعون في الإشارات العلمية الواردة في القرآن الكريم، فيصدرون أحكاماً يريدون بها التأكيد على أن هذا الكتاب من عند الله، ثم انتفاع الناس بهذه البركات التي استنبطوها !1، وما علموا – أو تجاهلوا – أن القرآن الكريم أقدر منهم على إثبات أنه وحي من مبدع الكــون، و ما فيه من إشارات علميــة كونية كاف لإثبات هذا، و لا حاجة إلى تأويلات غير دقيقة لتوافق معاني الآيات نظريات علمية غير ثابتة يقيناً قابلة للتبدل كل يوم قد تنقضها نظريات علمية قادمة !! حتى علماء الشرع تأخذهم الحماسة للدفاع عن القرآن الكريم، فيأخذون بما يقرؤون من نشـــرات غير علمية و لا موثوقة، ثم يؤولون كما يفعل زملاؤهم، و لا يدرون أن هذا التصرف ينزله من مقامه السامي، و لا يرفعه، فتبديل معاني القرآن الكريم على غير سند من أصول الفقه و اللغة العربية خطير خطير !!
نحن على يقين أن القرآن الكريم لا يخالف حقيقة علمية يقينية، و لكن فلنحذر الجري وراء تلفيقات، تُلصق كل حدث علمي به، اعتمادا على تفسير خاطئ لقوله – تعالى– ما فرّطنا في الكتاب من شيء. و لا يستطيع أن يجادل أحد من العلماء المعاصرين في معنى ( شيء ) الخاص بأمور العقيدة والعبادات والتشريع، وهو الغاية الشريفة من بعثتــــــــــه – صلى الله عليه وسلّم –
و لكنهم يتصرفون وفقاً للفهم الخاطئ الذي يعمّّ كل ما في هذا الكون من موجودات وحوادث !!
لقد ثبت للناس جميعاً أن فريقاً من المدّعين يبثّون خرافات يلصقونها بالدين و العلم، ويكسبون من ورائها أموالاً طائلة.. ( والحبل على الجرّار !!) . ألم تروا في الرائي ( التلفزيون ) ذلك الطبيب المثقف دينياً الذي توسّع فيما ذكره القرآن الكريم من الخضار والفواكه، وجعل لها بركات خاصّة، وقد أثبت العلم الحديث – و لا دخل لي فيما يقول عن الطب لأنه المختص، وما لي إلا أن أثق بقدرته الطبية – أما في فهم النص الشرعي فليس له سلطان على أحد في فرض فهمه.
أراد القرآن الكريم أن يورد من الأمثلة التي تدفع إلى الإيمان بالله الواحد، أو إلى تعميق هذا الإيمان في العقل والنفس، فكان هذا التعداد للخضار و الفواكه التي هي من نعم الله – تعالى – على الإنسان، وليس في النص دليل على أن لها مزايا خاصة على غيرها مما لم يذكر، اللهم إلا ما أورده فضيلة الطبيب ! إنها أمثلة وردت على سبيل التمثيل لا الحصر.
بهذه الخرافة التي نسبها الرجل إلى الدين و العلم معاً تروج كتبه، و يقبل الناس على شرائها لينتفعوا ببركاتها !! وهي نتيجة لازبة – دون تشكيك في سلامة نيته.
كانت جدتي امرأة العالم – غفر الله لنا ولها – تقول: للبخاري بركات في شفاء المرء من أمراض كذا و كذا، ( اعذروني فقد – والله – نسيت العلل التي يشفي منها صحيح البخاري ). نعم، القرآن الكريم شفاء لما في النفوس، ومعين على الشفاء من الأمراض، ففيه كلام الله – تعالى – القادر على كل شيء، ولكنه لا يقدّم دواء ماديا أبداً، وليس من الإيمان الصادق أن تهجر الطب مكتفياً بالقراءة و الذكر و الدعاء. و إن كنا على يقين أن الشفاء بإذن من الله – تعالى – لا من الطبيب، إنه إيمانك بالقضاء والقدر، فالله بيده كل شيء، ولكن عليك أن تبذل كل ما تستطيع في الوصول إلى أهدافك المشروعة.
أسوق هذا الكلام، و أنا أنتظر أن أسمع أصواتاً تتذمر وتعترض قائلة: هل يفعل أحد اليوم مثل هذا ؟! ولكن، تمهلوا، وانتظروا لتروا صورة هذا الماضي التي ينتقل إلى عصرنا الحاضر مع بعض التعديل ( الروتوش )، أنقل إليكم الصورة كما كنت أشاهدها في صغري. كان الأطباء آنذاك قلة نادرة، فلجأ الناس إلى المشائخ المطبّبين الذين ملؤوا ساحة العلاج، بقراءة القرآن الكريم، و الدعاء والتداوي بالأعشاب الطبية، و ضموا إلى كل ذلك الجن والتمائم (الحجابات )، خلطوا الخبيث بالطيّب.
ولكن الله- تعالى – أنعم علينا اليوم بفضله العميم، فصار لدينا كثير من الأطباء، منهم من أخلص طبابته لله – تعالى -، ومنهم من ابتكر، فكان الشيخ المطبّب القديم في ثوب عصري حديث ( مودرن )، و خرافة ملائمة للمجتمع المتحضّر !!
حكايات القصّاص ( الوعّاظ ): لا يشك أحد أن قصّاص اليوم أكثر علماً، و دقة في نقل الروايات للتأثير في الناس من قصّاص الأمس – و رحم الله الحسن البصري – و لا يستعينون بالأحاديث الموضوعة، ولكن هذا لم يمنع بعضهم أن يستعينوا بأحاديث وقصص و روايات تحتاج إلى تدقيق في أسانيدها، و في متونها كما فعل الأعلام من قبل، و تقاعس علماء اليوم عن هذا – اللهم إلا من عمل و تسرّع فكان لهم أجر واحد –.
كذلك الرجل الذي ضُرب به المثل في التشاؤم، و كراهية وجوده بين الناس، فهل تقيل العقيدة الإسلامية التشاؤم، وهل نظروا في أولئك الرواة الذين كانوا يرددون قصصاً في كتب الأدب للدعابة، فتلقّفها قصّاص اليوم، ولم يكتفوا بهدفها الذي وضعت له، و إنّما تجاوزوه إلى تثبيته في فكر الناس.
رجائي إلى علماء اليوم و الوعاظ أن يكونوا أشد حرصاً في انتقاء كلماتهم واستعمال الألفاظ في معانيها الصحيحة، و أن يكون المفتون أكثر دقة في فتاواهم باذلين جهودهــــم في معرفة ما وراء الاستفتاء، و ما يمكن أن يستغل بعض الناس فتاواهم في مصالحهم الدنيوية، ونعتمد في ذلك إخلاصهم لله – تعالى – وهو عماد كل عمل.
و بالله التوفيق.
و رأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب
الخرافة
وفي الزوايا
بقايا من بقاياها
كتبها: فيصل الملوحي
ملحوظة: القارئ الكريم
أرجو أن تقرأ البحث كاملا غير مجزّأ، و ألا تكتفي بجزئية دون أخرى، فالكلام المبتور يؤدي إلى أحكام باطلة. و أنت أعلم بدقة التمييز في عناصر هذا البحث بالذات.
عذرا، نزار.. فأنت الشاعر الموهوب، غير المبرّأ من العيوب. اعذرني فقد ( لطشت ) العنوان من قصيدة لك مغنّاة، فقد قلبت الإحساس الذي تحمّلـــــه هذه العبارة من جمــال في المحبــوب و حنين إليه، فكان إحساساً بقبح بقايا الخرافة المعششة في زوايا من مجتمعنا، والنفور منها.
و لا تلوموني أيها القرّاء الكرام على هذا الخلط بين النثر والشعر، و العلم والخيال، ففي الشعر خرافة أو بقية من بقاياها تمتزج بالمبادئ، و حلاوة الخيال في وهم يعاشره، ويغشى العلم والفكر فيلقحهما.
وليس غريباً أن يلتقي الضدّ بالضدّ في عقل الإنسان. والدليل هذه ( الدردشات - في اللغة الصحفية )، أو قول النديم للنديم في جلسة من ( التبسّط ) و إلقاء الهموم. فليس كل ما يقال يوافق الحقيقة، لأن كل طرف يريد أن يرتاح من أعبائه وهمومه، فليس المقام مقام براهين عقلية، أو إثباتات بالأدلة المنطقيّة.
كثيرون في القديم والحديث يؤمنون بالخرافة: العالم والجاهل، المتديّن والمارق. ليس بعيدا عنّا ما يفعله محترمون في المجتمع حين يلجؤون إلى العراّفين والمنجمين ( يؤسفني أن يبقى لفظ التنجيم بمعناه القديم، ونحن نعلم اليوم أن للنجوم علوماً – أو نظريّات علميّة – يحاول العلماء أن يقدّموا لها أدلتهم ).
بيد أن أخطر الخرافة ما يُربط بالدين، و يُحرّف العلم، و ما قصص الخيال العلمي عنا ببعيدة، فهي تقدّم لتسلية الصغار – بله الكبار – وليس لي اعتراض عليها، ولكني أضرب المثل لأبيّن أنّ العلم قد يختلط بالخرافة في أذهان بعض العلماء، و بعض العامّة.
لست أُُعنى هنا بالبحث في الأصول التاريخية لنشأة الخرافة، ولن أضرب أمثلة – مضت - للتديّن المنحرف، حين مُزجت بالدين – والدين منها بريء - ولادّعاءات علمية أوهمت الناس، فبجّلوا من سمَّوهم رجال دين و ورجال علم.
بين أيدينا مصنّفات كثيرة في هذا الموضوع، ولكني أُحبّ أن أشير - هنا – إلى أن بعضاً منها تجنّى على العلم والدين، فخلط الدين بالتديّن المنحرف، والعلم ب( التعالم ). و أخطرها ما خلط الخرافة بالشرائع السماوية التي أوحى بها مبدع الوجود إلى أنبيائه، وسطّرها في كتبه المنزّلة كالقرآن الكريم المحفوظ من التغيّر والتبدّل، الذي يثبت كل يوم أنّه كلام الله المعجز.
إنّما نريد أن نبيّن أثر الخرافة في التدين الواقعي – وليس في الدين ذي الأصول الثابتة الصحيحة _، وفي النظريات الباطلـــة التي تدّعي لنفسها العلم، و أنّها تهتدي بهداه في فكرهـــا و منهجها..
التديّن: لا شكّ أن التدين جِبِلَّة في نفس الإنسان، خُلقت مع خلقه و نفخ الروح فيه..
ينوي الإنسـان أن يلتزم الدين.. فإمّا أن ينجح فيما يرمي إليه فيتطابق تديّنه مع الدين المختار، أو أن يُخفق فيبتعد ابتعاداً تختلف ( درجاته ) من إنسان إلى آخر..
المشكلة أن عوائق كثيرة تمنع هذا الإنسان الالتزام الصحيح بالدين، من أبرزها الخرافة التي هي من نوازع النفس البشريّة التي تتأرجح بين الخير والشرّ، فيسير على هدى عقيدة منحرفة ويسلك سلوكاً شاذّا..
كل المثقّفين قرؤوا عن الخرافة في كتب السلف ( السلف: الآباء والأجداد الأقدمون ). أما في هذا العصر فلدينا بقايا أخطر و أعمق من الخرافة لأنها تتخذ من العلم لسانا لترويجها، و من الدين درءاً لتمكينها في النفوس.. فيضل الباحث عن الحق، ويسيّر في طريق رسمها له آخرون – ذوو نوايا حسنة أو نوايا خبيثة – ويقف من يريد أن يدفع عن الحق التشويه موقف العسر – و إن مع العسر يسرا – فلا يتمكّن من البيان - فمروّجو الخرافة لعبوا بمعاني الألفاظ - و لا يجد منفذا لتصحيح هذا التحريف لأن كل من سينتقدهم و يبيّن تهافتهم جاهل مارق !!
يقولون: العقل البشريّ قاصر محدود، وهذه حقيقة ليس لإنسان أن يردّها، و العقول البشريّة تتفاوت، و أرقاها لا يصل إلى الكمال، و لابدّ من التسليم بما جاء في الكتب السماوية الصحيحة، و بالوحي الذي تلقّاه الأنبياء نصّاً ومعنى، فهي لا تخالف العقل، و إنما قد يقصر العقل عن إثباتها أو نفيها، و قد لا يتمكّن خيال الإنسان من تصوّرها.. فالملائكة حقيقة، ولكن العقل لا يتصور شكلها و لا يقدر على إثبات وجودها على مدى حياة الإنسان على الأرض. وهناك ما يعجز عنه عقل الإنسان مع احتمال الوصول إليه في الحياة الدنيا، كالأجرام السماوية البعيدة.
و لكن هل تجيز لنا هذه المقدّمة أن يدّعي آخرون قدرتهم على هذا العمل – ولكن بعد تحريف معاني الألفاظ !! – فيُلغوا عقول الآخرين استناداً إلى هذه الحدود المرسومة لها ؟!
ما من عاقل متزن بريء من الهوى و المصلحة الشخصية يلغي عقله ويستسلم لهؤلاء المدّعين. الواجب أن يحضر العقل كل أمر يقتضي التفكير، و ليس لأحد – مهما كان كبيرا – أن يوهمه بأفكار، و يلزمه بأمور تجعل منه ( ميتاً بين يدي غاسله ).
كثيرون من أولي العلم ينتقدون ( فريقاً ) من المتصوّفة لأن المريد – عند هذا الفريق – دمية بين يدي شيخه، ليس لعقله عمل، و إنّما يتغذّى خياله بخرافات !!
ولكن، فلنسأل أنفسنا: هل نجا هؤلاء المعتدلون !! – منتقدو هذا الفريق من المتصوفة – مما يفعله شيخ هذا الفريق المتصوف ؟ ! ألا يسيطرون على أتباعهم، فيردّدون ما يقولون دون وعي أو تمحيص، و لا يقبلون من أحد أن يخالفهم، فهم في قرارة نفوسهم معصومون ( دون أن يجرؤوا على البوح بهذا اللفظ لخشيتهم من اتهامهم بالمروق !! ).
سيقولون: على المقلّد أن يُجلّ العلماء، و يأخذ بكلام واحد منهم، فهم القادرون على البحث والاجتهاد.
وهذه حقيقة نقرّ بها، ونلتزم العمل بها، و لكن لا نقبل أبداً أن يتحوّل المقلّد إلى منافح مبارز، يدافع عن رأي إمامه بالحجة والبرهان ( و قد قدمنا أنه غير قادر على البحث والاجتهاد، وفرضنا عليه التقليد ). و لكنه بفعله هذا ينطلق من خرافة العصر حين ثقّفه شيخه بالشريعة، وصار حطّاب ليل ( جامع معلومات متناثرة )، فظن نفسه عالما – دون شيخه طبعا - وهو لا يتمكن من بناء الفروع على الأصول، وشيخه أقدر منه على فهم كلامي هذا إذا كان عالما !!-.
و يتعدّد الأئمة، وتتعدد الجماعات، تؤمن كل جماعة بخرافة مماثلة تلقتها على يدي الشيخ الكريم، فتكيد كل جماعة للأخرى، وتتصارع، وتفتي لنفسها بما يعزز موقفها أمام الخصم، فيضيع المجتمع بين فئات متناحرة متنابذة – وقد أشار إلى هذا شيخ له أتباعه، ونسي أنه واقع في المرض نفسه -.
نحن لا ننكر، فالعامي – ومثله المثقف ثقافة دينية – مضطر إلى التقليد، ولكن أرجوكم ألا تعودوا بنا إلى عصر التعصب للمذاهب و لأئمتها فقد وقعتم فيه بصيغة عصرية !
يقولون: اتركوا لكل اختصاصـه، فالعالم في الدين لا يفتي إلا في الدين، و الطبيب يعالج المرضى و لا يتكلم إلا في الطب، والمهندس لتخطيطه و عمرانه..
نحن مع هذا الرأي لأنه ضرورة ماسة، فليس من المعقول أن يتكلّم الإنسان فيما يجهله.
و لكن الواقع غير هذا ونقيضه. لقد اختلطت الأمور، فلم يعد عالم الدين – إذا كان عالماً بالدين - يعرف حدوده، بل أخذ يفصّل – مثلاً – في مركب كيمياوي ( كالجيلاتين ) الحيواني، ويصف تطوره من حالته الأولى في الخنزير إلى و ضعه الجديد، كما يفعل الكيمياوي في الحديث عن تحول سكر العنب إلى خمرة مسكرة ثم إلى خل لاذع..ثم يفتي بناء على علمه الكيمياوي بجواز ( الجيلاتين ) الحيواني أو حرمته، وويل ثم ويل لأيّ كيمياوي يتصدى لهذا التحليل الكيمياوي، أو لأي إنسان يتوقف عن القبول به.
نحن لا نلغي معرفة هذا العالم، ولكن هذه المعرفة في غير اختصاصه، وهي ثقافة عامة يتلقاها مثل غيره من قراءة الكتب العامة و الصحف المنتشرة.. و الأَوْلى أن يجتمع المختصّون العلميون الموثوقون، ويعطوا نتيجة علمية، ثم يبني المفتي – أو جماعة المفتين – الفتوى على هذه النتيجة بالحل أو الحرمة. (أعجبني أمس داعية كريم في رفضه الربط بين معنى الشهاب الوارد في القرآن الكريم و المعنى العلمي للشهاب، وقال: أترك التفسير العلمي لأهله).
نكتفي بهذا الحديث عن علماء الشرع الذين يحاولون تسلق جدار العلوم العصرية، و ننتقل إلى دارسي هذه العلوم. لم تختلف الصورة إلا كما يختلف الشكلان المتناظران ( في الهندسة ). لقد حملوا الأجازات العلمية ( licence.. )، أو تعمقوها فصاروا علماء بحّاثة، تثقفوا في علوم الدين – قبل العلوم العصرية، أو بعدها، كانت ثقافة شرعية لا تمكنهم من إتقان الأصول ليبنوا عليها الفروع، وتسلّقوا جدار الدعوة والإفتاء – رغم أنهم ينفون عن أنفسهم القدرة على الإفتاء، و ما هم بزعمهم سوى دعاة، كأنما يكفي إمام الدعوة أن يكون له اطلاع مبتور في الدين !! – فتصرفوا بأهواء المريدين تصرف المعصوم من الخطأ ( و اعذروني فما من أحد يجرؤ على تلقيب نفسه بهذا اللقب، و لكنني أصف الواقع ) وليس بعيداً عنا أمر شيختنا الفاضلة إلى مريداتها بتجنب النوم فرب الحائط لأنه ذكر !! ( هذا ما شاع بين المريدات، و نترك الحقيقة لعلام الغيوب )، أو تيسير ذلك الشيخ أتباعه إلى الموت ( إنه شهادة – حسب زعمه – في سبيل الله )، و هو قابع في قصره المشيد المحروس بالرجال و أرقى الأجهزة الحديثة، و هل تقبلون أن يقضيَ الأعداء على نفائس العلم !!
للعبودية وجهان: وجه المستعبِد، ووجه المستعبَد، و الخرافة عبودية ( يفبركها ) المستعبِد ليأخذ بها المستعبَد.
رجائي إلى:
١ – العلماء الذين تجاوزوا علومهم الشرعية إلى علو م الكون :
آ – أن يخلصوا دينهم لله ( و لا حاجة إلى الغضب من هذه الكلمة، فكلنا نحتاج دائماً إلى من يذكّرنا بقوله: اتق الله ).
ب – أن يعتزّوا باطلاعهم على العلوم الكونية، بدون أن يكون هذا الاطلاع عذرا يجيز لهم الحديث في هذه العلوم حديث العالم المتخصّص.
ج – ألا يستعينوا في وعظهم وإرشادهم بالخرافة القائمة على قصص يردّدها العامّة و بعضها تخالف العقيدة، فتعشش في عقول الناس !!
٢ – دارسي العلوم الكونية الذين تجاوزوا هذه العلوم إلى الدعوة والإرشاد :
آ – أن يخلصوا دينهم لله ( و لا حاجة إلى الغضب من هذه الكلمة، فكلنا نحتاج دائماً إلى من يذكّرنا بقوله: اتق الله ).
ب – أن يعتزّوا باطلاعهم على العلوم الشرعية، بدون أن يكون هذا الاطلاع عذرا يجيز لهم الإفتاء و توجيه الأتباع إلى الالتزام بما يأخذون به من أحكام.
ج – ألا يستعينوا في وعظهم وإرشادهم بالخرافة القائمة على أوهام في الجمع بين النظريات العلمية و ما جاء في القرآن الكريم ( وإن كنا نؤكّد على ورود إشارات علمية في القرآن الكريم تزيد في اطمئنان المؤمن نشير إليها الآن )، فتعشش في عقول الناس !!
ثم رجائي إلى:
الفريقين ألا تكون لكل شيخ طائفة تحارب الطوائف الأخرى.
الإشارات العلمية في القرآن الكريم:
ينطلق هؤلاء من حسن النية (وواجبنا تحسين الظن بالناس ما أمكن )، و أن القرآن الكريم وحي من عند الله – تعالى -. و لا يشكّ مسلم و لا عاقل بهذا، و إنما الاختلاف بيننا وبينهم أنهم يحسون بضرورة دعم هذه الفكرة بالإكثار من تقريب العلم للدين - أو العكس -، و ما يقوله علماء الكون للقرآن الكريم.
دارسو العلوم الكونية الذين صاروا علماء شرع بقدرة قادر !! يتوسعون في الإشارات العلمية الواردة في القرآن الكريم، فيصدرون أحكاماً يريدون بها التأكيد على أن هذا الكتاب من عند الله، ثم انتفاع الناس بهذه البركات التي استنبطوها !1، وما علموا – أو تجاهلوا – أن القرآن الكريم أقدر منهم على إثبات أنه وحي من مبدع الكــون، و ما فيه من إشارات علميــة كونية كاف لإثبات هذا، و لا حاجة إلى تأويلات غير دقيقة لتوافق معاني الآيات نظريات علمية غير ثابتة يقيناً قابلة للتبدل كل يوم قد تنقضها نظريات علمية قادمة !! حتى علماء الشرع تأخذهم الحماسة للدفاع عن القرآن الكريم، فيأخذون بما يقرؤون من نشـــرات غير علمية و لا موثوقة، ثم يؤولون كما يفعل زملاؤهم، و لا يدرون أن هذا التصرف ينزله من مقامه السامي، و لا يرفعه، فتبديل معاني القرآن الكريم على غير سند من أصول الفقه و اللغة العربية خطير خطير !!
نحن على يقين أن القرآن الكريم لا يخالف حقيقة علمية يقينية، و لكن فلنحذر الجري وراء تلفيقات، تُلصق كل حدث علمي به، اعتمادا على تفسير خاطئ لقوله – تعالى– ما فرّطنا في الكتاب من شيء. و لا يستطيع أن يجادل أحد من العلماء المعاصرين في معنى ( شيء ) الخاص بأمور العقيدة والعبادات والتشريع، وهو الغاية الشريفة من بعثتــــــــــه – صلى الله عليه وسلّم –
و لكنهم يتصرفون وفقاً للفهم الخاطئ الذي يعمّّ كل ما في هذا الكون من موجودات وحوادث !!
لقد ثبت للناس جميعاً أن فريقاً من المدّعين يبثّون خرافات يلصقونها بالدين و العلم، ويكسبون من ورائها أموالاً طائلة.. ( والحبل على الجرّار !!) . ألم تروا في الرائي ( التلفزيون ) ذلك الطبيب المثقف دينياً الذي توسّع فيما ذكره القرآن الكريم من الخضار والفواكه، وجعل لها بركات خاصّة، وقد أثبت العلم الحديث – و لا دخل لي فيما يقول عن الطب لأنه المختص، وما لي إلا أن أثق بقدرته الطبية – أما في فهم النص الشرعي فليس له سلطان على أحد في فرض فهمه.
أراد القرآن الكريم أن يورد من الأمثلة التي تدفع إلى الإيمان بالله الواحد، أو إلى تعميق هذا الإيمان في العقل والنفس، فكان هذا التعداد للخضار و الفواكه التي هي من نعم الله – تعالى – على الإنسان، وليس في النص دليل على أن لها مزايا خاصة على غيرها مما لم يذكر، اللهم إلا ما أورده فضيلة الطبيب ! إنها أمثلة وردت على سبيل التمثيل لا الحصر.
بهذه الخرافة التي نسبها الرجل إلى الدين و العلم معاً تروج كتبه، و يقبل الناس على شرائها لينتفعوا ببركاتها !! وهي نتيجة لازبة – دون تشكيك في سلامة نيته.
كانت جدتي امرأة العالم – غفر الله لنا ولها – تقول: للبخاري بركات في شفاء المرء من أمراض كذا و كذا، ( اعذروني فقد – والله – نسيت العلل التي يشفي منها صحيح البخاري ). نعم، القرآن الكريم شفاء لما في النفوس، ومعين على الشفاء من الأمراض، ففيه كلام الله – تعالى – القادر على كل شيء، ولكنه لا يقدّم دواء ماديا أبداً، وليس من الإيمان الصادق أن تهجر الطب مكتفياً بالقراءة و الذكر و الدعاء. و إن كنا على يقين أن الشفاء بإذن من الله – تعالى – لا من الطبيب، إنه إيمانك بالقضاء والقدر، فالله بيده كل شيء، ولكن عليك أن تبذل كل ما تستطيع في الوصول إلى أهدافك المشروعة.
أسوق هذا الكلام، و أنا أنتظر أن أسمع أصواتاً تتذمر وتعترض قائلة: هل يفعل أحد اليوم مثل هذا ؟! ولكن، تمهلوا، وانتظروا لتروا صورة هذا الماضي التي ينتقل إلى عصرنا الحاضر مع بعض التعديل ( الروتوش )، أنقل إليكم الصورة كما كنت أشاهدها في صغري. كان الأطباء آنذاك قلة نادرة، فلجأ الناس إلى المشائخ المطبّبين الذين ملؤوا ساحة العلاج، بقراءة القرآن الكريم، و الدعاء والتداوي بالأعشاب الطبية، و ضموا إلى كل ذلك الجن والتمائم (الحجابات )، خلطوا الخبيث بالطيّب.
ولكن الله- تعالى – أنعم علينا اليوم بفضله العميم، فصار لدينا كثير من الأطباء، منهم من أخلص طبابته لله – تعالى -، ومنهم من ابتكر، فكان الشيخ المطبّب القديم في ثوب عصري حديث ( مودرن )، و خرافة ملائمة للمجتمع المتحضّر !!
حكايات القصّاص ( الوعّاظ ): لا يشك أحد أن قصّاص اليوم أكثر علماً، و دقة في نقل الروايات للتأثير في الناس من قصّاص الأمس – و رحم الله الحسن البصري – و لا يستعينون بالأحاديث الموضوعة، ولكن هذا لم يمنع بعضهم أن يستعينوا بأحاديث وقصص و روايات تحتاج إلى تدقيق في أسانيدها، و في متونها كما فعل الأعلام من قبل، و تقاعس علماء اليوم عن هذا – اللهم إلا من عمل و تسرّع فكان لهم أجر واحد –.
كذلك الرجل الذي ضُرب به المثل في التشاؤم، و كراهية وجوده بين الناس، فهل تقيل العقيدة الإسلامية التشاؤم، وهل نظروا في أولئك الرواة الذين كانوا يرددون قصصاً في كتب الأدب للدعابة، فتلقّفها قصّاص اليوم، ولم يكتفوا بهدفها الذي وضعت له، و إنّما تجاوزوه إلى تثبيته في فكر الناس.
رجائي إلى علماء اليوم و الوعاظ أن يكونوا أشد حرصاً في انتقاء كلماتهم واستعمال الألفاظ في معانيها الصحيحة، و أن يكون المفتون أكثر دقة في فتاواهم باذلين جهودهــــم في معرفة ما وراء الاستفتاء، و ما يمكن أن يستغل بعض الناس فتاواهم في مصالحهم الدنيوية، ونعتمد في ذلك إخلاصهم لله – تعالى – وهو عماد كل عمل.
و بالله التوفيق.