زين العابدين
11-17-2008, 11:22 PM
مفهوم الشعر بين التجديد والتبديد
د. وليد قصّاب
إنَّ العربَ عندما عَرَّفوا الشِّعرَ بأنَّه "الكلامُ الموزونُ المُقَفَّى، الدَّالُّ على معنى" - لم يَعْنِ ذلك أبداً أنَّهم أهملوا بقيَّة عناصره؛ كالخيال، والعاطفة، والتَّشْكيل اللُّغوي المتميِّز، ولكنَّهم كانوا يشيرون إلى أنَّ أبْرَزَ ما يميِّز الشِّعرَ منَ النَّثْر خارجيّاً هو الوزن، وذلك أنَّ سائرَ العناصر الأخرى يمكنُ أن يَشْرَكَهُ فيها النَّثْر، وقد يتفوَّقُ عليه فيها!
وإذا كان التُّراثُ النقديُّ عند العرب قد فَطِنَ إلى أنَّ الشِّعر ليسَ كلاماً موزوناً فحسب، فإنَّه في الوقت نفسِه لم يُسمِّ أيَّ كلام - مهما كانت خصائصُه الجماليَّةُ رفيعةً - شِعْراً، إذا خلا من الوزن.
وقد ميَّز العربُ – في إطار الشِّعْر – بين ضَرْبَين: ضَرْب استوفى الوزن، وخانتْهُ العناصرُ الجماليَّة الأخرى، وضَرْبٌ استوفاهما معاً؛ فالثَّاني هو الشِّعْرُ الحقيقيُّ المعتَبَرُ، والأوَّلُ شِعْرٌ رديءٌ، وقد سمَّوهُ أحياناً باسم (النَّظْم) ليَمِيزُوهُ من الثَّاني.
ومضى الشُّعراءُ العربُ يجدِّدون في أوزان الشِّعْر، كما كانوا يجدِّدون في عناصره الأخرى، ولكن بقيَ الوزنُ – على تنوُّعٍ في صُوَره – هو العلامةَ الفارِقةَ بين الشِّعْر والنَّثْر، وظلَّتْ قَسَماتُ وَجْه كلٍّ منهما جليَّةً لا تخطِئها العَيْنُ.
ونَصِلُ إلى العصر الحديث؛ فتقوى مَوْجاتُ التَّجديد، ممتزجةً بالتَّغْريب، وتولِّدُ في خمسينيات القرن الماضي قصيدةَ (الشِّعرِ الحُرِّ)، معتمدةً على وَحْدَة التَّفْعيلَة وزناً، وتَضِيقُ الآفاقُ الرَّحْبَةُ بالعَرُوض العربيِّ شيئاً فشيئاً، حتى أصبح الشِّعْرُ الحديثُ يقوم اليومَ - عند مَنْ يعرفون الوزن أصلاً ويلتزمونَهُ – على تفعيلاتٍ معيَّنةٍ، لا تكاد تُجاوِز أصابعَ اليَدِ الواحدة، ويَفْشُو الخطأُ والكَسْرُ في استعمال الأوزان بصورةٍ لافتةٍ للنَّظَر، وتبدأ ملامحُه المتميِّزة في الضُّمور شيئاً فشيئاً، ويبدأُ الهجومُ على الشِّعْر العربيِّ التُّراثِيِّ، وعلى عَرُوضِهِ الخَلِيلِيِّ، فيُتَّهمُ بالعَجْز والجُمُود وعدم القُدْرة على مُجارَاة العصر؛ بل يروِّج فكرةَ أنَّ القصيدة العموديَّة قد انقرضتْ!
ويأخذُ أصحابُ الحَدَاثَة الهَجِينَة في تَمْيِيعِ مفهوم الشِّعْر، ونَسْفِ المعايير الضَّابطة له؛ فيتحدَّثُ قومٌ عن صَهْر الأجناس الأدبيَّة كلِّها في نوعٍ واحدٍ هو الكتابةُ، وتَسمعُ مَنْ يقولُ لكَ: "إنَّ الشِّعْرَ لا عَلاقَةَ له بالوزن أو الموسيقا، وإِنَّه (رؤيةٌ)".
وآخرُ يقولُ لكَ: "إنَّ الشِّعْرَ ليس نوْعاً أدبيّاً؛ بل هو حالةٌ فكريَّةٌ ورُوحيَّةٌ، تشملُ - حين تتوسَّع - لا الشِّعْرَ كفَنٍّ أدبيٍّ فحسب؛ بل فنونَ التَّعبير وطرائقَ الحياة..". وغيرَ ذلكَ من الكلام الزِّئْبَقِيِّ الرَّجْرَاج، الذي لا يكادُ يحملُ دَلالةً مفهومةًَ.
وفي ظِلِّ هذا الكَسْر للمعايير تولد بِدْعَةُ ما دُعيَ (قصيدةَ النَّثْر)، التي لم تَكْتَفِ برفض الشِّعْرِ العربيِّ التُّراثيِّ؛ بل برفضِ قصيدةِ (الشِّعْرِ الحُرِّ) كذلك.
وهي نمطٌ هَجِِينٌ من الكتابة، لا يَمُتُّ إلى مفهوم الشِّعْر عند العرب بأيَّة صِلَة؛ بل هو تقليدٌ غربيٌّ؛ كما يعترفُ بذلك أبرزُ رُوَّاد هذا النَّمط من الكتابة، من أمثال (أَدونيس)، و(أُنْسِي الحَاجّ) وغيرهما.
إنهما يقلِّدان – كما أكَّدا غير مرَّة – الناقدةَ الفرنسية (سوزان برنار) في المصطلَح، وفي الكلام النَّظريِّ على خصائص هذا اللَّون من الكتابة.
ويعترفُ أَدونيس أنَّ (قصيدة النَّثْر) لم تستطعْ إلى الآنَ إثباتَ وجودِها، أو تحديدَ هُوِيَّةٍ لها، أو أن يكون لها نظامٌ يميِّزُها.
إنَّها نَثْرٌ عائمٌ مضطربٌ، ولعله – بسبب ذلك – خفتتْ حماسةُ (أُنْسِي الحاجّ) لها، وتخلَّى (أَدونيس) عن الكتابة بها، وراح يجرِّب بِدْعَةً أخرى يسمِّيها (مَلْحَمِيَّة الكتابة).
وهذا النَّمطُ من الكتابة النَّثْريَّة التي أَخَذَتْ من الشِّعْرِ خاصيَّةَ (التَّخْيِيل) عُرِفَتْ في التُّراثِ النَّقديِّ العربيِّ، وسمَّاها الفارابيُّ وغيرُهُ: (القَوْلَ الشِّعْريَّ).
إنَّ هذا النَّمطَ النَّثْريَّ من الكتابة - الذي نقترحُ له مصطلَحَ (النَّثِيرَة)، تمييزاً له عن ألوان الكتابة الأخرى - يحاولُ أن يكتسحَ مفهومَ الشِّعْرِ العربيِّ كما عَرَفَتْهُ هذه الأمَّة خلال تاريخها الطَّويل، وهو ينتشرُ اليومَ انتشاراً واسعاً بسبب التَّرويج الإعلاميِّ الهائل له، وبسبب شُحِّ المواهب، وانعدام الجِدِّ والدَّأَب، وبسبب استسهال الكتابة عند قومٍ، ورغبتِهم أن يكونوا شعراءَ بين ليلةٍ وضُحاها.
إن ما يُدعَى اليومَ - ضلالاً – قصيدةَ النَّثْر هو انتهاكٌ لحُرْمَة الشِّعْر العربيِّ، وهو تبديدٌ لمفهومه وليس تجديداً، وهي اليومَ كالمَطِيَّةِ الذَّلُولِ، لا تتأبَّى على رَاكبٍ، ولا تردُّ يَدَ لامِسٍ!
إنها (حِمارُ الكتابة) كما قالتِ العربُ قديماً عن الرَّجَز إنَّه (حِمارُ الشعر).
ولا غرابةَ - من ثَمَّ - أن يَكْثُرَ مُمْتَطُوها والمدافعونَ عنها من أصحاب المواهب النَّاضِبَة؛ إذ يرتبطُ (مستقبلُهمُ الأدبيُّ) بها؛ فهم لا يعرِفون غيرها!
إنها لا تحتاجُ إلى تعلُّمٍ ولا جهد، ولا إتقانِ لغةٍ أو قواعدَ أو أوزانٍ، أو مكابدةِ قضيةٍ، أو تعاطي فكرٍ.
كلُّ شيء هاهنا مُستباحٌ، وما على فُرْسَانِها إلا إمساكُ القلم، وتَرْكُهُ يَجْمَحُ ويَرْمَحُ كيفما يشاءُ.
د. وليد قصّاب
إنَّ العربَ عندما عَرَّفوا الشِّعرَ بأنَّه "الكلامُ الموزونُ المُقَفَّى، الدَّالُّ على معنى" - لم يَعْنِ ذلك أبداً أنَّهم أهملوا بقيَّة عناصره؛ كالخيال، والعاطفة، والتَّشْكيل اللُّغوي المتميِّز، ولكنَّهم كانوا يشيرون إلى أنَّ أبْرَزَ ما يميِّز الشِّعرَ منَ النَّثْر خارجيّاً هو الوزن، وذلك أنَّ سائرَ العناصر الأخرى يمكنُ أن يَشْرَكَهُ فيها النَّثْر، وقد يتفوَّقُ عليه فيها!
وإذا كان التُّراثُ النقديُّ عند العرب قد فَطِنَ إلى أنَّ الشِّعر ليسَ كلاماً موزوناً فحسب، فإنَّه في الوقت نفسِه لم يُسمِّ أيَّ كلام - مهما كانت خصائصُه الجماليَّةُ رفيعةً - شِعْراً، إذا خلا من الوزن.
وقد ميَّز العربُ – في إطار الشِّعْر – بين ضَرْبَين: ضَرْب استوفى الوزن، وخانتْهُ العناصرُ الجماليَّة الأخرى، وضَرْبٌ استوفاهما معاً؛ فالثَّاني هو الشِّعْرُ الحقيقيُّ المعتَبَرُ، والأوَّلُ شِعْرٌ رديءٌ، وقد سمَّوهُ أحياناً باسم (النَّظْم) ليَمِيزُوهُ من الثَّاني.
ومضى الشُّعراءُ العربُ يجدِّدون في أوزان الشِّعْر، كما كانوا يجدِّدون في عناصره الأخرى، ولكن بقيَ الوزنُ – على تنوُّعٍ في صُوَره – هو العلامةَ الفارِقةَ بين الشِّعْر والنَّثْر، وظلَّتْ قَسَماتُ وَجْه كلٍّ منهما جليَّةً لا تخطِئها العَيْنُ.
ونَصِلُ إلى العصر الحديث؛ فتقوى مَوْجاتُ التَّجديد، ممتزجةً بالتَّغْريب، وتولِّدُ في خمسينيات القرن الماضي قصيدةَ (الشِّعرِ الحُرِّ)، معتمدةً على وَحْدَة التَّفْعيلَة وزناً، وتَضِيقُ الآفاقُ الرَّحْبَةُ بالعَرُوض العربيِّ شيئاً فشيئاً، حتى أصبح الشِّعْرُ الحديثُ يقوم اليومَ - عند مَنْ يعرفون الوزن أصلاً ويلتزمونَهُ – على تفعيلاتٍ معيَّنةٍ، لا تكاد تُجاوِز أصابعَ اليَدِ الواحدة، ويَفْشُو الخطأُ والكَسْرُ في استعمال الأوزان بصورةٍ لافتةٍ للنَّظَر، وتبدأ ملامحُه المتميِّزة في الضُّمور شيئاً فشيئاً، ويبدأُ الهجومُ على الشِّعْر العربيِّ التُّراثِيِّ، وعلى عَرُوضِهِ الخَلِيلِيِّ، فيُتَّهمُ بالعَجْز والجُمُود وعدم القُدْرة على مُجارَاة العصر؛ بل يروِّج فكرةَ أنَّ القصيدة العموديَّة قد انقرضتْ!
ويأخذُ أصحابُ الحَدَاثَة الهَجِينَة في تَمْيِيعِ مفهوم الشِّعْر، ونَسْفِ المعايير الضَّابطة له؛ فيتحدَّثُ قومٌ عن صَهْر الأجناس الأدبيَّة كلِّها في نوعٍ واحدٍ هو الكتابةُ، وتَسمعُ مَنْ يقولُ لكَ: "إنَّ الشِّعْرَ لا عَلاقَةَ له بالوزن أو الموسيقا، وإِنَّه (رؤيةٌ)".
وآخرُ يقولُ لكَ: "إنَّ الشِّعْرَ ليس نوْعاً أدبيّاً؛ بل هو حالةٌ فكريَّةٌ ورُوحيَّةٌ، تشملُ - حين تتوسَّع - لا الشِّعْرَ كفَنٍّ أدبيٍّ فحسب؛ بل فنونَ التَّعبير وطرائقَ الحياة..". وغيرَ ذلكَ من الكلام الزِّئْبَقِيِّ الرَّجْرَاج، الذي لا يكادُ يحملُ دَلالةً مفهومةًَ.
وفي ظِلِّ هذا الكَسْر للمعايير تولد بِدْعَةُ ما دُعيَ (قصيدةَ النَّثْر)، التي لم تَكْتَفِ برفض الشِّعْرِ العربيِّ التُّراثيِّ؛ بل برفضِ قصيدةِ (الشِّعْرِ الحُرِّ) كذلك.
وهي نمطٌ هَجِِينٌ من الكتابة، لا يَمُتُّ إلى مفهوم الشِّعْر عند العرب بأيَّة صِلَة؛ بل هو تقليدٌ غربيٌّ؛ كما يعترفُ بذلك أبرزُ رُوَّاد هذا النَّمط من الكتابة، من أمثال (أَدونيس)، و(أُنْسِي الحَاجّ) وغيرهما.
إنهما يقلِّدان – كما أكَّدا غير مرَّة – الناقدةَ الفرنسية (سوزان برنار) في المصطلَح، وفي الكلام النَّظريِّ على خصائص هذا اللَّون من الكتابة.
ويعترفُ أَدونيس أنَّ (قصيدة النَّثْر) لم تستطعْ إلى الآنَ إثباتَ وجودِها، أو تحديدَ هُوِيَّةٍ لها، أو أن يكون لها نظامٌ يميِّزُها.
إنَّها نَثْرٌ عائمٌ مضطربٌ، ولعله – بسبب ذلك – خفتتْ حماسةُ (أُنْسِي الحاجّ) لها، وتخلَّى (أَدونيس) عن الكتابة بها، وراح يجرِّب بِدْعَةً أخرى يسمِّيها (مَلْحَمِيَّة الكتابة).
وهذا النَّمطُ من الكتابة النَّثْريَّة التي أَخَذَتْ من الشِّعْرِ خاصيَّةَ (التَّخْيِيل) عُرِفَتْ في التُّراثِ النَّقديِّ العربيِّ، وسمَّاها الفارابيُّ وغيرُهُ: (القَوْلَ الشِّعْريَّ).
إنَّ هذا النَّمطَ النَّثْريَّ من الكتابة - الذي نقترحُ له مصطلَحَ (النَّثِيرَة)، تمييزاً له عن ألوان الكتابة الأخرى - يحاولُ أن يكتسحَ مفهومَ الشِّعْرِ العربيِّ كما عَرَفَتْهُ هذه الأمَّة خلال تاريخها الطَّويل، وهو ينتشرُ اليومَ انتشاراً واسعاً بسبب التَّرويج الإعلاميِّ الهائل له، وبسبب شُحِّ المواهب، وانعدام الجِدِّ والدَّأَب، وبسبب استسهال الكتابة عند قومٍ، ورغبتِهم أن يكونوا شعراءَ بين ليلةٍ وضُحاها.
إن ما يُدعَى اليومَ - ضلالاً – قصيدةَ النَّثْر هو انتهاكٌ لحُرْمَة الشِّعْر العربيِّ، وهو تبديدٌ لمفهومه وليس تجديداً، وهي اليومَ كالمَطِيَّةِ الذَّلُولِ، لا تتأبَّى على رَاكبٍ، ولا تردُّ يَدَ لامِسٍ!
إنها (حِمارُ الكتابة) كما قالتِ العربُ قديماً عن الرَّجَز إنَّه (حِمارُ الشعر).
ولا غرابةَ - من ثَمَّ - أن يَكْثُرَ مُمْتَطُوها والمدافعونَ عنها من أصحاب المواهب النَّاضِبَة؛ إذ يرتبطُ (مستقبلُهمُ الأدبيُّ) بها؛ فهم لا يعرِفون غيرها!
إنها لا تحتاجُ إلى تعلُّمٍ ولا جهد، ولا إتقانِ لغةٍ أو قواعدَ أو أوزانٍ، أو مكابدةِ قضيةٍ، أو تعاطي فكرٍ.
كلُّ شيء هاهنا مُستباحٌ، وما على فُرْسَانِها إلا إمساكُ القلم، وتَرْكُهُ يَجْمَحُ ويَرْمَحُ كيفما يشاءُ.