المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رسائل الطاحونة ( الرابعة )



فيصل الملوحي
10-31-2008, 08:55 AM
رسائل الطاحونة

( الرسالة الرابعة )

Lettres de mon moulin
Alphonse Daudet





للكاتب: ألفونس دوديه
• عربها: فيصل الملوحي



حكاية
العنْزة البيضاء

إهداء لشاعر الوجدان
بطرس غرَنغوار



عزيزي غرَنغوار،


أمّا بعد

فأنت كما أنت ، و لن يتغيّر شيء ممّا ألفتَه مهما حدث!
وَيْ،ما أعجبك! أيعقل أن ترفض ما قدّمته لك جريدة باريس الغرّاء، ألا تتواضع فتعمل منشئاً للأخبار!
ثمّ تعال، ألا تنظر إلى نفسك، أنت الرجل البئيس،ألم تر إلى قميصك المخَرّقَ، ونعليك المقطّعَيْن،ووجهك الهزيل الذي يتضوّر جوعا! هذا ما ينالك من قوافيك الحسان! هذا ما كسبته في عشر سنوات من الوفاء في خدمة مولاك أبولو! ألا تشعر بعد كلّ هذا بالخجل من نفسك؟!
ما لك - أيّها الأحمق- مخرج من فقرك سوى أن تعمل منشئاً للأخبار، فبه تجد دخلاً يعينك على العيش الكريم، و تنعم بأكلة في مطعم بريبان، وتتحدّى الزمن فتزداد رفعة في عيون الناس!
أتقول: لا! لا تريد؟! كلّ ما تطمح إليه أن تظلّ على ما ألفت في حياتك إلى أن يُغيّبك الموت، لا يعكّر عليك صفوها شيء!
اسمعني، سأقصّ عليك حكاية عنْزة سيغان لتأخذ منها العبرة. وترى مصير كلّ من يريد أن يعيش حرا لا يقيّده شيء!!
لم يكن السيّد سيغان يوماً في حياته سعيداً بعنْزاته.
لقد ضاعت منه جميعاً بالطريقة نفسها التي تتصرّف بها أنت:
في صباح يوم بديع أرخى السيّد سيغان لعنْزاته حبالها، فشردت في الجبل، هكذا اشتاقت للخروج، فلا حُسنُ عِشْرة صاحبها أغراها بالبقاء، ولا الخوف من ذئب الجبل صدّها عن الرغبة في التحرّر، قررت ألا يكون لأحد سلطان على إرادتها، وأن تخرج إلى الهواء الطلق حيث نعمة الحرية – وليكن بعدها الطوفان!! –
وهناك.. في الأعالي أكلها الذئب.
لم يفهم السيّد سيغان شيئاً من مزاج بهائمه، وأّذهله ما فعلته ، فقال :
- التَوْبة، هذه العنْزات ملّت صحبتي. لن أُبقيَََ عندي عنْزة واحدة!
- لكنّه في الحقيقة لم يتبْ و لم يرتدع، فقد اشترى ستّ عنْزات أخرى، وفقدها كما فقد العنْزات الأولى.
ثمّ اشترى سابعة، واختارها في هذه المرّة قريبة العهد بالولادة، و حرص على تربيتها منذ ذاك السنّ لتألف البقاء عنده، و ألا يحدث لها كما حدث لسابقاتها .
عزيزي غرَنغوار- هل أنت معي تتابع القصّة!
وَيْ،ما كان أجملك،عَُُنَيْْزةَ سيغان:أتغوينا بعينيك الهادئتين، أم لحيتك المدلاة،أم حافريك السوداوين اللمّاعين، تُرى أتغرينا بخطوط قرنيك ،أم شعرك الأبيض الطويل الذي اتخذتِ منه دثاراً فضفاضا!
وَيْ،كأنّك في جمالك الرائع جَدْي إيسميرالدا (كان إيسميرالدا شابّاً محبوباً يحيا حياة بوهيميّة، يراقص جديَه، ويستعين به في ألعابه السحريّة ).
ألا تتذكّر يا غرَنغوار؟!



ما كانت تتردّد لحظة في إعطاء حليبها ، و لا تُفسد جميلها بغمس حافرها في الإناء ، كان عطاءًً مصدره حبٌّ تفيض به نفس العَُُنَيْْزةَ.
كان لصاحبنا سيغان خلف منزله حائط زَعْرور (بستان)، يضع فيه رفيقته التي تساكنه،ويربطها بوتِد في أروع بقعة من المرج الأخضر، يُعنى براحتها، ويمدّّّ لها حبلها، ويتردّد إلى المكان من آن إلى آخر لينظر في طلباتها.
سعدت العَُُنَيْْزةَ أيّما سعادة، فرعت الربيع الأخضر بكلّ نفس راضية، أذهلت بها صاحبنا سيغان.
بعد كلّ ما سبق، أ يخطر على بال أحد أن يضيق ذَرعاً بإقامته عنده؟!
أخطأ صاحبنا سيغان ظنهّ، فلقد ملّت عنزته هذه الصحبة!!
ذات يوم قالت في نفسها وهي تنظر إلى الجبل: لابدّ أن تكون تلك المرتفعات خيراً ممّا أنا فيه. ما أسعدني و أنا أقفز بين زهور البنفسج، حرّة من هذه اللعنة– لعنة الرسن التي يحزّ الرقبة!! نعم قد يُلائم ال****َ أو الثور العيش في حائط ( بستان ) ليرعيا العشب الأخضر، أمّا الماعز فلا يصلح لها إلا الأماكن الرحيبة!
منذ ذاك الوقت تغيّر مذاق العشب في فمها فكرهته، وتعاظم في نفسها الضجر، فهزلت، وغاض حليبها. صارت تثير الشفقة و هي تجرجر رسنها طول النهار، و نظرها تلقاء الجبل، تشخر بمنخريها فتثير لواعج القلوب!
لفتت هذه التغيّرات نظر صاحبنا سيغان،بيد أنّه لم يستطع تفسيرها.
وفي صباح يوم بعد أن أنهى حلبها التفتت العنزة إليه وقالت – بلغتها-:أصغ إليّ - سيّدي سيغان- و افهم أني مرضت في جوارك، فاتركني أذهب إلى الجبل!
فصاح سيغان مصعوقاً- وإناء الحليب يسقط من يديه-: وَيْ، أهي الأخرى تريد الخلاص، عفوك يا ربّ، ثمّ جلس بجوارها على العشب، وأخذ يسترضيها: أنت متعتي و نشوتي، فكيف تتركينني، فردّت عليه بقولها: أجل! إتّي سأتركك -سيّدي سيغان-.
- هل ينقصك العشب هنا؟!
- لا ، مطلقاً- سيّدي سيغان -.
- قد يكون رسنك قصيراً، فهل أمدّه لك ؟
- دع عنك هذا- سيّدي سيغان -.
- إذن، ماذا تفقدين؟! أ فصحي عمّا تريدين!
- أرغب في الذهاب إلى الجبل!-سيّدي سيغان-.
- يا مسكينة، ألم تسمعي بذئب الجبل، ماذا ستفعلين إن حضر؟
- سوف ألقّنه درساً بقرنَيّ،- سيّدي سيغان -.
- ألا تعلمين أنّ الذئب يسخر من قرنيك، لقد أكل لي عنزاتي، و كانت أقوى منك قرونا!
أنت تعرفين العنزة رينود التي كانت كالتيس في قوّتها، أمضت كلّ الليل- في العام الماضي- تتعارك مع الذئب، تدافع عن نفسها، لكنْ دون فائدة، فقد أكلها في الصباح!
فهم صاحبنا سيغان أنّ أمراً يتردّد في نفس عنزته، لكنْ، ما هو ؟، لم يصل في تخميناته إلى شيء.
- المسكينة رينود!.. لا عبرة نستخلصها من هذه القصّة.،دعني أذهب إلى الجبل-سيّدي سيغان-.
قال صاحبنا سيغان :
- ربّاه، رحمتك! ماذا يفعلون بعنزاتي؟ أواحدة أخرى يأكلها الذئب.. لا، ثمّ لا، سوف أنقذكِ رغماً عنك،يا ( منحوسة )! لن أُمكّنك من قطع الرسن، فسأحبسك في الزريبة فلا تُغادرينها!
أخذ سيغان العنزة إلى زريبة معتمة جدّا، ووضع للباب قُفلاً بمزلاجَيْن. و لكن وا حسرتــاه – رغم كلّ هذا الحرص - غُمّ على قلبه فأنساه الشيطان الشبّاك مفتوحـــاً، و ما كاد يُدير ظهره حتى انفلتت المدلّلة!
- أتضحك، يا غرَنغوار؟ نعم! أعرف، أنت إلى جانب العنزة التوّاقة إلى الحرية في هذا الأمر ضدّ صاحبنا سيغان المعذّب.
اصبر عليّ، و سوف ترى من يضحك أخيرا!
ضجّت كلّ أنحاء الجبل حين وصلت العنزة البيضاء، فما رأت من قبل عيون التنّوب (شجر الصنوبر) المعمََّــــر مثل هذا الجمال. استقبلتها كمليكة متوّجــــة. و انحنت لها أشجار الكستناء فلامست الأرض بأطراف أغصانها، وراحت تداعبها. وتفتّحت الزهور الذهبيّة في ممشاها، بأبهى منظر خلاب.
ما كان أسعد الجبل بقدومها، لقد جعلت ذلك اليوم عيداً لكلّ من في الجبل.
تخيّل يا غرَنغوار سعادة عنزتنا، لقد تحرّرت من قيد رسن ثُبّت إلى وتِد: لا شيء يمنعها اليوم من ( النطنطة ) والرعي كما تهوى.. انظر! ها هنا الربيع الذي يُسمّى ربيعا! يا عزيزي، إنّه العشب الذي ارتفع حتى غطّى قرنيها، وتشُكّل من ألف نوع و نوع من النبات، ما ألذّ طعمه، و ما أطراه، و ما أيسر مضغه. هذا شيء آخر لا تماثله أبداً خضرة الحائط ( البستان ). أم هل تُنسى الزهور! الزهور ذات الكؤوس المستديرة الزرقاء، و الزهور ذات الكؤوس المتطاولة الأرجوانية. كلّ ما يحيط بك غابة غطّتها زهور البريّة ( البعيدة عن العمران)، الزهور التي طفحت وريقاتها بعصارة تُرطّب الفؤاد!
هذه عنزتنا البيضاء تنطلق في نشوة سكر ى بما في الغابة، فتتمرّغ في عتباتها ، لا تفتر سيقانها عن الحركة في الهواء وهي تركض على طول الساتر الذي يؤلّف بين أوراق الشجر و الكستناء. وفجأة تقف منتصبة على قوائمها ثمّ تثب فتشرئبّّ بعنقها عبر الحرش، تنقّل نظرها بين العلو و المنحدر، بين قمّة الجبل و أسفل الوادي ، في كلّ صوب.. أ ليست هنا عنزات سيغان العشر؟! فممّ تخاف؟
وثبت وثبة تخطّت بها وديان المياه التي تغطّي الأرض.. و غرقت في الماء، فما كان لها سوى أن تتمدّد على صُخَيْرات مستوية، و تنشّف نفسها بأشعّة الشمس..
حين صعدت الهضبة لمحت في الأسفل -في وادي القرية - بيت السيّد سيغان و حائطه في الخلف, فأطلقت ضحكة رافقتها دموع ذرفتها عيناها! وقالت في نفسها:
ما أضيقه!! كيف استطعت أن أتحمّل البقاء فيه كلّ ذاك الزمن!!
مسكينة!! إنّها ترى نفسها تطلّ من العلو فتحسب أنّها أكبر من هذا العالم!!
كان اليوم رائعا، فغمرتها السعادة، وأخذت تجري لا يوقفها شيء ختى و جدت نفسها عند الظهيرة وسط قطيع من الوعول ( تيوس الجبل ) تقضم بأسنانها البديعة أوراق الكرمة البرّيّة. بهرها منظر حسنائنا العدّاءة الصغيرة في ردائها الأبيض، فبوّأتها موضع الكرمة الأفضل، وتصرّفت معها تصرّف سادة ظرفاء، حتى إنّ فتى منها ذا معطف أسود - حذار غرَنغوار ،هذا سرّ بيننا- له جاه عريض في بلانكيت أغواها فشرد العاشقان في الأحراش ساعة وربما ساعتين، و إن أحببت أن تعرف الحديث الذي جرى بينهما، فاسأل عيون الماء مُفشية الأسرار، وهي تتغلغل بين الطحالب.
وحلّ المساء، فاشتدّت برودة الهواء و صدمت العُنيزة بقسوة الجبل المفاجئة، فتسمّرت في مكانها.
نظرت من تحتها، فلم تر الحقول و لا حائط السيّد سيغان لقد غطّاها الضباب، و لم يظهر من البيت سوى سطحه وشيء من دخان يتصاعد. وسمعت من حولها أجراس قطيع يعود إلى حظيرته، ودغدغها سنقر ( صقر ) بجناحيه وهو يقصد وكره، فأوجست في نفسها الخوف..
أخذتها رجفة، وهي تسمع عواء في الجبل، فتذكّرت حينها الذئب الذي غاب عن مخيّلتها كلّ النهار، و في الوقت نفسه سمعت في الوادي السحيق نداء من بوق عشيرها السابق سيغان وهو يبذل آخر محاولاته.
كرّر الذئب عواءه المرعب: أنّ مصيرك قريب .... وكرّر البوق نداءه الحميم: أن تعالَيْ، و انعمي بالأمان.
اشتاقت بلانكيت للعودة، و لكنّها ذكرت الوتد و الحبل و سياج البستان ( الحائط ). قالت في نفسها: لقد انقضى كلّ شيء، وما أمامي سوى أن أبقى!!
و اختفى صوت البوق، و حلّ مكانه صوت حركة بين أوراق الشجر. التفتت، فرأت أذنين قصيرتين لا اعوجاج فيهما، و عينين تبرقان، كان ذلك الذئب من خلفها!! رهيباً لكن في هدوء مقعياً على إسته (جالساً على مؤخّرته )، ينظر إلى العنيزة البيضاء، يتملّاها قبل أن يأكلها، هو على يقين من الأمر، فلم العجلة ؟! ما فعل ( الملعون ) شيئاً حين التفتت إليه سوى أنه أخذ في الضحك!! يا للمسكينة، عُنيزة سيغان، لقد تدلّى لسانها الأحمر الغليظ بين مرمّتيها ( شفتيها) اللدنتين،و طار صوابها...
ذكرّها هذا الموقف العصيب بما جرى لرينود من قبل، لقد قاومت الليل بطوله لتُؤكل في الصباح، فقالت في نفسها: ما فائدة المقاومةّ؟! خير لي أن يأكلني الذئب من فوره. في اللحظة الأخيرة ارتدّت إليها شجاعتها التي كانت تتباهى بها عند السيّد سيغان ،و غيّرت رأيها، فأخذت وضع الاستعدادّ للمعركة: خفضت رأسها إلى الأسفل، وصوّبت قرنيها إلى الأمام، ما كان هذا عن أمل في القدرة على قتل الذئب، فما للماعز هذه القدرة، كلّ ما في الأمر أنهّا تريد التحدّيَ لتثبتَ أنّها قادرة على الصمود أطول ممّا صمدت رينود!! عندئذ تقدّم الوحش، فأخذ القرينان يتراقصان من الرعبّّ!!
تصوّر يا غرينغوار- و تأكّد أنّي صادق في كلّ ما أقول- أنّ العنيزة الشجاعة بسلامة قلبها تمكّنت أكثر من عشر مرّات على إجبار الذئب على التقهقر ليستجمع قوّته. وكانت هذه الشرهة إلى الطعام تقتنص هذا الوقت لتعضّ عضّة من عشبها المفضّل، ثمّ تعود إلى المعركة بفم محشوّ. بقي الأمر على هذه الحال الليل بطوله، لقد كانت كلّ حين تنظر إلى السماء الصافية، فترى النجوم تتراقص في ناظريها، و تقول في نفسها:
- أوه، هل أصمد حتى الفجر؟
واحدة بعد الأخرى تنطفئ النجوم ، و بلانكيت تضاعف للذئب ضربات قرنيها لتردّ عنها طعنات أسنانه.. و في الأفق يلوح بصيص شاحب من النور.. و من المزرعة يتصاعد صياح الديك.
وتقول البهيمة: هذا هي النهاية!! فما كانت تطلب غير إقبال النهار لتموت، وتتمدّد على الأرض و قد تضرّج فروها البهيّ بالدماء..فارتمى الذئب على العنيزة، والتهمها!!
وداعاً، غرينغوار.
- لا تحسبنّ هذه القصة أسطورة خرافيّة من بنات خيالي. لو جئت إلى البروفانس يوماً، فستسمع الخدم يتحدثون كثيراً عن عنزة سيغان التي عاركت الذئب الليل بطوله، ثمّ أكلها الذئب في الصباح.
أسمعت، و فهمت: ثمّ أكلها الذئب في الصباح!!

عبير الورد
10-31-2008, 10:28 AM
ذات يوم قالت في نفسها وهي تنظر إلى الجبل: لابدّ أن تكون تلك المرتفعات خيراً ممّا أنا فيه. ما أسعدني و أنا أقفز بين زهور البنفسج، حرّة من هذه اللعنة– لعنة الرسن التي يحزّ الرقبة!! نعم قد يُلائم ال****َ أو الثور العيش في حائط ( بستان ) ليرعيا العشب الأخضر، أمّا الماعز فلا يصلح لها إلا الأماكن الرحيبة!
منذ ذاك الوقت تغيّر مذاق العشب في فمها فكرهته، وتعاظم في نفسها الضجر، فهزلت، وغاض حليبها. صارت تثير الشفقة و هي تجرجر رسنها طول النهار، و نظرها تلقاء الجبل، تشخر بمنخريها فتثير لواعج القلوب!



وتقول البهيمة: هذا هي النهاية!! فما كانت تطلب غير إقبال النهار لتموت، وتتمدّد على الأرض و قد تضرّج فروها البهيّ بالدماء..فارتمى الذئب على العنيزة، والتهمها!!


مبدع يا استاذ فيصل

والله انها رسالة عجيبة

فيصل الملوحي
09-30-2009, 06:40 AM
وشكراً لك إبداعك في تذوّق الخيال الأدبي