زين العابدين
05-05-2008, 07:59 PM
أريج الطباع
عادَ الألم ينغزُ قلبَها مُجددًا، تركتْ كلَّ شيءٍ بيدها لتستلقيَ على سريرها..
أخذتْ نفَساً عميقاً وهي تفكّر، يجب أنْ تسترخي وتشتت تفكيرَها عن موضعِ الألم وسيمرُّ الأمرُ بسلامٍ بإذن الله..
عبراتُها كانتْ تتمردُ عليها وهي تُحرقُ وَجنتَيها مع آلامها!
لكنَّها قاومَتْ بقوةٍ كما اعتادتْ، وكبست زرَّ المسجّلة بجوارِ سريرِها ليعلوَ صوتٌ حبيبٌ لقلبها يُشعرُها بالطمأنينة والأمنِ مهْما كان ألمُها.. وردَّدتْ بشفتيها مع المقرئ:
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً * ويُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً * وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}.
عاد نبضُها لينتظم مجدَّداً، واستطاعتْ أنْ تبتسمَ وهي تمسحُ عبراتِها ويلْهجُ لسانُها بالدُّعاء..
آه.. كم تُشعرها الآيات بالسَّكينة حقا!
- أمّي، لا تقلقي أنا بخير الحمد لله..
-...................
- نعمْ، نعم ثِقي بذلك أمِّي، لم أعد أشعرُ بألم !
-...................
- أمِّي، كم أنا سعيدةٌ اليوم.. لقد شعرتُ برفساتهِ في بطني.. كان ذلك شعوراً رائعًا !
هل كنت تشعرين بهذا معي؟
كم تبدوْ الأمومةُ ممتعةً منذُ لحظات الحملِ الأولى..
((كانت ابتسامتُها تغلِّفُ وجهَها بنورٍ رائع، ويشعُّ حناناً وإشراقاً وهي تتحدَّثُ بحماسٍ عن جنينها)).
-...................
عادت نبضاتُ قلبها تتسارع، لكنّها حَزْنَى هذه المرة.. وتنهدت بعمق:
- أمّي، ما هذا الكلام؟ تعرفين كم أنا سعيدة بهذا الحملِ.. أريدُهُ، مهما كان مؤلماً لي..
أثقُ أمّي أنه لنْ ينتهيَ عمري قبل وقتهِ.
.. فاضتْ عبراتُها وهي تتابع:
- نعم أعرفُ، أعرف... جسدي ضعيفٌ ولن يحتمّلَ، وقد لا أعيشُ كثيرًا..
لكنّي أريدُ هذا الحملَ، أريـده!..
أريدُ أن أشعُرَ بالأُمومة وأنْ أحضنَ طفلي قبل أن أغادرَ الدنيا..
أريدُ ولدًا صالحاً يدعوْ لي، أمي.
ألا يحقُّ لي ذلك كغيري؟؟
وخنقَتْها العَبَرات، فما عادت قادرةً على إتمامِ حديثها..
-...................
- لا عليك، أستطيعُ أنْ أقدِّرَ كم يعني لكِ ألَمي، وكم تحبينني.. ثقي بذلك أمي.
-...................
- حسناً، سأنتظركِ، وأخبرِيْ أبي أنّي أيضاً اشتقتُ لهُ ولإخوتي.
أغلقت (نورُ) سماعة الهاتف، وتنهدتْ بعمق..
آه.. كم تبدُوْ الأمومة متعِبة رُغمَ مُتعَتِها!
كادت تطيرُ مِن الفرحة وهِيَ تُمسكُ إنتاجَها الأوّلَ. بلَّلَتْ عبراتُها عينَيها مجدّدًا.. لكنها هذه المرة دموعُ فرح..
تشعر دوماً أنّها تُسارِعُ الوقتَ وتُسابقُ الزَّمانَ، كلُّ لحظة تمرُّ تخشى أنْ تخسرها فلا تعود!
حضنَتْ كِتابَها وهي تدُور بالغرفةَ وتُنادي زوجَها:
- إبراهيم.. إبراهيم، انظرْ إنتاجيَ الأولَ! كم أنا سعيدةٌ حقًّا به.
ما كنتُ أظنُّ الأحلامَ تتحقق.
نظرَ لها بحنانٍ وأمسكَ يدها بقوة، لرُبَّما أراد أن يشعرها كمْ تعني له، وكم هو فخورٌ بها.. لكنّهُ عجَزَ عنِ الكلام، واكتفى أن يحضنها ويستمعَ لتسارُعِ أنفاسِها وهيَ سعيدة. ويتمتم داعياً اللهَ أن يُديمَ عليهما السعادةَ والرَّاحة.
رفعتْ رأسها عن كتفهِ ونظرتْ له بعينِها اللاَّمعةِ:
- إبراهيم، عدني أنّك حينَما أغادرُ العالم ستَنشُرُ كتابي للجميع.. وستهتمُّ أنْ يتناقلَهُ الناسُ ويستفيدوا مِنهُ..
كمْ أشعر بالراحة أني استطعت الانتهاءَ منه أخيرًا، ورأيتُهُ يرى النورَ وأنا على الأرض.
.. تنهّدَ إبراهيمُ بألمٍ وابتسم لها:
- حبيبتي، هلاّ جعلتِنا نستمتعُ بلحظتنا الآن؟
ولا تذكرينَ الرَّحيلَ ثانية؟
مسحتْ بيدِها عَبراتهِ وهي تبتسم:
- لا يا إبراهيم، لا أحبُّ دَورَ النعامةِ التي تطمرُ رأسها بالأرض هربًا مِن الواقع..!
تعرفُ كما أعرفُ أنّ جسمي لن يمهلني كثيراً، فقطْ أتوقُ أنْ يحقق اللهُ حلمي وأضمَّ صغيرَنا (هادي) بيدي، وأهمسَ في أذنه كم كان يعني لي أنْ يأتي للعالم، وكم أثق أنه سيكون عظيمًا أفخرُ به بإذن الله.
تجمَّعُوا كلُّهم حولَ غرفتها..
كثيرون يحبون نور..
كثيرون الذين أمسكتْ نورُ بيدِهم وساعدتْهم لينهَضوا، ليعرفوا أن الطريق مهما كان مليئاً بالشَّوك إلا أنّه قد يزرع بالورود لوْ شِئنا..
نورُ كانتْ بلسماً للجميع، تعطيهم الأملَ وتزرع بقلوبهم الثِّقة..
نورُ ممدَّدةٌ الآنَ بالعنايةِ المركَّزة، بعدَ أنْ خرج هادي للنور..
صوتُ بكاءِ هادي الذي تُمسكُهُ جدَّتُه وتقبِّلُه بحنانٍ من بين عَبراتها كان يختلطُ ببكاءِ مَن حولها أيضاً..
والمُمرِّضَة تقف عندَ باب العناية المركّزة، ترجوهم فقط أن يبتعِدوا قليلاً.. ويدخلوا اثنين اثنينِ فقط لغرفتها:
- التزِمُوا الهدوء، لن تسمعَكم.. هي لا تشعرُ بشيءٍ الآن، فقد أخذَتِ الكثير من المهدِّئات. دعوها ترتاحُ أرجوكم.
- هل هي تتألم؟ كان ذلك صوت صديقتِها مختنقاً مِن بَين عَبراتها.. كانت تنظر إليها وهي لا تكادُ تَرى مِن الدموع..
مسحَتِ الممرضةُ دمعةً فرّتْ مِن عينها وهي تقول:
- لا، لا تقلقي.. العنايةُ ممتازةٌ هُنا، وسيُعطونها ما يريحها.
- هل هناكَ أملٌ أن تصحو وتشعر بنا؟
هزت الممرضةُ رأسها وهي تسير:
- أنت مؤمنةٌ وتعرفين أن الله أرحَمُ بها منا!
رغمَ مضيِّ كلِّ هذه الأيام، إلاَّ أنّ سناءَ تعجَزُ عنْ نِسيانِ نور..
تراها كلّ لحظة، تشاركها كل حياتها..
صوتُها الحنون يرِنُّ بأُذنها كلما ضعفت وتعبت، كلما شعرت بفتور..
لمعةُ عينِ نور كانتْ تضيء لسناء حياتَها، وتمسَحُ عبراتها وهي تردد:
- نعم يا نور حبيبتي أذكر العهد.. ثقي بذلك.
كانتْ تذكر غضبَها وهي تقول لها بصوت متهدج:
- قد أغادر العالمَ سناء، لا تجعلي ذلكَ يفقِدُك صوابكِ..وتابعي المسير..
تذكري كمْ تملكينَ أن تقدّمي للناس.. كم تملكين من القدراتِ الّتي يجبُ أن تُعمل!
لا تنظري لي بشفقةٍ أكرهُها، لا أحبُّ هذا..
ساعديني لأكون أفضلَ، لأشعر بالطمأنينةِ، لأتغلّب على آلامي..
لستُ مسكينةً - سناء - بل الناس همُ المساكينُ، فأنا شعرتُ بألمٍ فكان كالشرارة التي تدفعُني دوماً للأمام.. تحرِّكُني خوفًا من أنْ أتكاسلَ ويفوتني الوقت!
هم الذين ناموا وتكاسَلوا وأمنوا الدنيا، هم الذين جرّتهم الحياة..
صدّقيني - حبيبتي - ابتلاءُ المرض أهوَنُ بكثيرٍ من ابتلاء الصحة والغنى والفراغ!!
لا تنظري إليّ هكذا.. أعني ما أقولُه، وسأسعى دومًا لأحقِّق أحلامي، لن يوقفَني سوى الموت!
مسحَتْ عبراتِها وهي تستعيدُ كلامَ نور صديقتِها المقرَّبةِ التي عانت المرضَ منذ وعَتِ النور!! وقاومتْهُ كثيرًا كأشجعِ مجاهدٍ على الأرض..
آه يا نور، كنت تطلبين منّي أن أتذكركِ بدعواتي بين حينٍ وآخرَ حينما تشغلُني الحياة!
وأنا لا زلتُ أفكّر هل تُراني سأستطيعُ أن أنساك يوما!
رحمكِ اللهُ - صديقتي-..
رحمكِ الله..
فعلتِ الكثيرَ حينما كنتِ بيننا، ولا زلت لليومِ تتركين من الأثر الكثير.
تنهد (هادي) وهو يمسح عبراتهِ ويدعوْ لأمِّه الراحلة!
كمْ كانَ يتوقُ أنْ يراها حقّاً، لا أحدَ في الدنيا أحبَّه كما أحَبتْهُ..
فعلت الكثير لأجله ولم تستطعْ أن تراه إلا للحظات!
كان يمسكُ كتابها بيده، ويقرأُ الإهداء للمرة المليون.. ربّما..
"إليكَ صغيري الذي لم يَخرُج للنورِ بَعدُ..
إليكَ هادي، حبيبي، أهدي كتابي..
رَفساتُك، حَرَكَتُكَ ببطني، أحلاميْ حولك، كلُّها كانت تشاركُني الكتابةَ دوماً..
وها قد خرج كتابي للنور هادي.
وتحقَّق لي ثاني حلمٍ بعد حلمي بحَملي بكَ.. وبأنْ تصبح هادياً للناس مُعيناً لهم..
لا زلتَ لم ترَ النورَ بعدُ، ولا أعرف إنْ كنتَ ستراني..
لكنّي أثِقُ أنّكَ ستكونُ حريصًا أنْ تسيرَ بذات الطريق الذي يوصلُنا للّقاء الذي لا فراق بعده، بإذن الله..
... أمُّكَ الَّتي تُحبك " نُـور ".
محبكم / زين العابدين
عادَ الألم ينغزُ قلبَها مُجددًا، تركتْ كلَّ شيءٍ بيدها لتستلقيَ على سريرها..
أخذتْ نفَساً عميقاً وهي تفكّر، يجب أنْ تسترخي وتشتت تفكيرَها عن موضعِ الألم وسيمرُّ الأمرُ بسلامٍ بإذن الله..
عبراتُها كانتْ تتمردُ عليها وهي تُحرقُ وَجنتَيها مع آلامها!
لكنَّها قاومَتْ بقوةٍ كما اعتادتْ، وكبست زرَّ المسجّلة بجوارِ سريرِها ليعلوَ صوتٌ حبيبٌ لقلبها يُشعرُها بالطمأنينة والأمنِ مهْما كان ألمُها.. وردَّدتْ بشفتيها مع المقرئ:
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً * ويُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً * وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}.
عاد نبضُها لينتظم مجدَّداً، واستطاعتْ أنْ تبتسمَ وهي تمسحُ عبراتِها ويلْهجُ لسانُها بالدُّعاء..
آه.. كم تُشعرها الآيات بالسَّكينة حقا!
- أمّي، لا تقلقي أنا بخير الحمد لله..
-...................
- نعمْ، نعم ثِقي بذلك أمِّي، لم أعد أشعرُ بألم !
-...................
- أمِّي، كم أنا سعيدةٌ اليوم.. لقد شعرتُ برفساتهِ في بطني.. كان ذلك شعوراً رائعًا !
هل كنت تشعرين بهذا معي؟
كم تبدوْ الأمومةُ ممتعةً منذُ لحظات الحملِ الأولى..
((كانت ابتسامتُها تغلِّفُ وجهَها بنورٍ رائع، ويشعُّ حناناً وإشراقاً وهي تتحدَّثُ بحماسٍ عن جنينها)).
-...................
عادت نبضاتُ قلبها تتسارع، لكنّها حَزْنَى هذه المرة.. وتنهدت بعمق:
- أمّي، ما هذا الكلام؟ تعرفين كم أنا سعيدة بهذا الحملِ.. أريدُهُ، مهما كان مؤلماً لي..
أثقُ أمّي أنه لنْ ينتهيَ عمري قبل وقتهِ.
.. فاضتْ عبراتُها وهي تتابع:
- نعم أعرفُ، أعرف... جسدي ضعيفٌ ولن يحتمّلَ، وقد لا أعيشُ كثيرًا..
لكنّي أريدُ هذا الحملَ، أريـده!..
أريدُ أن أشعُرَ بالأُمومة وأنْ أحضنَ طفلي قبل أن أغادرَ الدنيا..
أريدُ ولدًا صالحاً يدعوْ لي، أمي.
ألا يحقُّ لي ذلك كغيري؟؟
وخنقَتْها العَبَرات، فما عادت قادرةً على إتمامِ حديثها..
-...................
- لا عليك، أستطيعُ أنْ أقدِّرَ كم يعني لكِ ألَمي، وكم تحبينني.. ثقي بذلك أمي.
-...................
- حسناً، سأنتظركِ، وأخبرِيْ أبي أنّي أيضاً اشتقتُ لهُ ولإخوتي.
أغلقت (نورُ) سماعة الهاتف، وتنهدتْ بعمق..
آه.. كم تبدُوْ الأمومة متعِبة رُغمَ مُتعَتِها!
كادت تطيرُ مِن الفرحة وهِيَ تُمسكُ إنتاجَها الأوّلَ. بلَّلَتْ عبراتُها عينَيها مجدّدًا.. لكنها هذه المرة دموعُ فرح..
تشعر دوماً أنّها تُسارِعُ الوقتَ وتُسابقُ الزَّمانَ، كلُّ لحظة تمرُّ تخشى أنْ تخسرها فلا تعود!
حضنَتْ كِتابَها وهي تدُور بالغرفةَ وتُنادي زوجَها:
- إبراهيم.. إبراهيم، انظرْ إنتاجيَ الأولَ! كم أنا سعيدةٌ حقًّا به.
ما كنتُ أظنُّ الأحلامَ تتحقق.
نظرَ لها بحنانٍ وأمسكَ يدها بقوة، لرُبَّما أراد أن يشعرها كمْ تعني له، وكم هو فخورٌ بها.. لكنّهُ عجَزَ عنِ الكلام، واكتفى أن يحضنها ويستمعَ لتسارُعِ أنفاسِها وهيَ سعيدة. ويتمتم داعياً اللهَ أن يُديمَ عليهما السعادةَ والرَّاحة.
رفعتْ رأسها عن كتفهِ ونظرتْ له بعينِها اللاَّمعةِ:
- إبراهيم، عدني أنّك حينَما أغادرُ العالم ستَنشُرُ كتابي للجميع.. وستهتمُّ أنْ يتناقلَهُ الناسُ ويستفيدوا مِنهُ..
كمْ أشعر بالراحة أني استطعت الانتهاءَ منه أخيرًا، ورأيتُهُ يرى النورَ وأنا على الأرض.
.. تنهّدَ إبراهيمُ بألمٍ وابتسم لها:
- حبيبتي، هلاّ جعلتِنا نستمتعُ بلحظتنا الآن؟
ولا تذكرينَ الرَّحيلَ ثانية؟
مسحتْ بيدِها عَبراتهِ وهي تبتسم:
- لا يا إبراهيم، لا أحبُّ دَورَ النعامةِ التي تطمرُ رأسها بالأرض هربًا مِن الواقع..!
تعرفُ كما أعرفُ أنّ جسمي لن يمهلني كثيراً، فقطْ أتوقُ أنْ يحقق اللهُ حلمي وأضمَّ صغيرَنا (هادي) بيدي، وأهمسَ في أذنه كم كان يعني لي أنْ يأتي للعالم، وكم أثق أنه سيكون عظيمًا أفخرُ به بإذن الله.
تجمَّعُوا كلُّهم حولَ غرفتها..
كثيرون يحبون نور..
كثيرون الذين أمسكتْ نورُ بيدِهم وساعدتْهم لينهَضوا، ليعرفوا أن الطريق مهما كان مليئاً بالشَّوك إلا أنّه قد يزرع بالورود لوْ شِئنا..
نورُ كانتْ بلسماً للجميع، تعطيهم الأملَ وتزرع بقلوبهم الثِّقة..
نورُ ممدَّدةٌ الآنَ بالعنايةِ المركَّزة، بعدَ أنْ خرج هادي للنور..
صوتُ بكاءِ هادي الذي تُمسكُهُ جدَّتُه وتقبِّلُه بحنانٍ من بين عَبراتها كان يختلطُ ببكاءِ مَن حولها أيضاً..
والمُمرِّضَة تقف عندَ باب العناية المركّزة، ترجوهم فقط أن يبتعِدوا قليلاً.. ويدخلوا اثنين اثنينِ فقط لغرفتها:
- التزِمُوا الهدوء، لن تسمعَكم.. هي لا تشعرُ بشيءٍ الآن، فقد أخذَتِ الكثير من المهدِّئات. دعوها ترتاحُ أرجوكم.
- هل هي تتألم؟ كان ذلك صوت صديقتِها مختنقاً مِن بَين عَبراتها.. كانت تنظر إليها وهي لا تكادُ تَرى مِن الدموع..
مسحَتِ الممرضةُ دمعةً فرّتْ مِن عينها وهي تقول:
- لا، لا تقلقي.. العنايةُ ممتازةٌ هُنا، وسيُعطونها ما يريحها.
- هل هناكَ أملٌ أن تصحو وتشعر بنا؟
هزت الممرضةُ رأسها وهي تسير:
- أنت مؤمنةٌ وتعرفين أن الله أرحَمُ بها منا!
رغمَ مضيِّ كلِّ هذه الأيام، إلاَّ أنّ سناءَ تعجَزُ عنْ نِسيانِ نور..
تراها كلّ لحظة، تشاركها كل حياتها..
صوتُها الحنون يرِنُّ بأُذنها كلما ضعفت وتعبت، كلما شعرت بفتور..
لمعةُ عينِ نور كانتْ تضيء لسناء حياتَها، وتمسَحُ عبراتها وهي تردد:
- نعم يا نور حبيبتي أذكر العهد.. ثقي بذلك.
كانتْ تذكر غضبَها وهي تقول لها بصوت متهدج:
- قد أغادر العالمَ سناء، لا تجعلي ذلكَ يفقِدُك صوابكِ..وتابعي المسير..
تذكري كمْ تملكينَ أن تقدّمي للناس.. كم تملكين من القدراتِ الّتي يجبُ أن تُعمل!
لا تنظري لي بشفقةٍ أكرهُها، لا أحبُّ هذا..
ساعديني لأكون أفضلَ، لأشعر بالطمأنينةِ، لأتغلّب على آلامي..
لستُ مسكينةً - سناء - بل الناس همُ المساكينُ، فأنا شعرتُ بألمٍ فكان كالشرارة التي تدفعُني دوماً للأمام.. تحرِّكُني خوفًا من أنْ أتكاسلَ ويفوتني الوقت!
هم الذين ناموا وتكاسَلوا وأمنوا الدنيا، هم الذين جرّتهم الحياة..
صدّقيني - حبيبتي - ابتلاءُ المرض أهوَنُ بكثيرٍ من ابتلاء الصحة والغنى والفراغ!!
لا تنظري إليّ هكذا.. أعني ما أقولُه، وسأسعى دومًا لأحقِّق أحلامي، لن يوقفَني سوى الموت!
مسحَتْ عبراتِها وهي تستعيدُ كلامَ نور صديقتِها المقرَّبةِ التي عانت المرضَ منذ وعَتِ النور!! وقاومتْهُ كثيرًا كأشجعِ مجاهدٍ على الأرض..
آه يا نور، كنت تطلبين منّي أن أتذكركِ بدعواتي بين حينٍ وآخرَ حينما تشغلُني الحياة!
وأنا لا زلتُ أفكّر هل تُراني سأستطيعُ أن أنساك يوما!
رحمكِ اللهُ - صديقتي-..
رحمكِ الله..
فعلتِ الكثيرَ حينما كنتِ بيننا، ولا زلت لليومِ تتركين من الأثر الكثير.
تنهد (هادي) وهو يمسح عبراتهِ ويدعوْ لأمِّه الراحلة!
كمْ كانَ يتوقُ أنْ يراها حقّاً، لا أحدَ في الدنيا أحبَّه كما أحَبتْهُ..
فعلت الكثير لأجله ولم تستطعْ أن تراه إلا للحظات!
كان يمسكُ كتابها بيده، ويقرأُ الإهداء للمرة المليون.. ربّما..
"إليكَ صغيري الذي لم يَخرُج للنورِ بَعدُ..
إليكَ هادي، حبيبي، أهدي كتابي..
رَفساتُك، حَرَكَتُكَ ببطني، أحلاميْ حولك، كلُّها كانت تشاركُني الكتابةَ دوماً..
وها قد خرج كتابي للنور هادي.
وتحقَّق لي ثاني حلمٍ بعد حلمي بحَملي بكَ.. وبأنْ تصبح هادياً للناس مُعيناً لهم..
لا زلتَ لم ترَ النورَ بعدُ، ولا أعرف إنْ كنتَ ستراني..
لكنّي أثِقُ أنّكَ ستكونُ حريصًا أنْ تسيرَ بذات الطريق الذي يوصلُنا للّقاء الذي لا فراق بعده، بإذن الله..
... أمُّكَ الَّتي تُحبك " نُـور ".
محبكم / زين العابدين