المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رسائل الطاحونة ( الرسالة الأولى / الثانية / الثالثة )



فيصل الملوحي
05-03-2008, 06:29 AM
رسائل الطاحونة
Lettres de mon moulin
Alphonse Daudet



للكاتب: ألفونس دوديه
• عربها: فيصل الملوحي




ألفونس دوديه

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة:


ولد ألفونس دوديه (Alphonse Daudet)في مدينة (نيم) الفرنسيّة عام ١٨٤٠م،وألجأه فقر أسرته أن يصبح معلماً في معهد – أليس- وهو شابٌّ صغير ، عاش في (نِيمْ حتى عام ١۸٤٠ ثم في باريس حتى توفي عام ١۸٩٧ م)
ارتبط بالمدرسة الطبيعية، وامتزجت في أعماله اللوحات الواقعية للحياة اليومية بالخيال. ألف عدداً من الروايات: (ذلك الشيء الهيّن، عام ١۸٦۸ م ؛ تارتاران من كاركاسون عام ١۸٧٢ م؛ سافو، عام ١۸۸٤ م) بالإضافة إلى قصص طويلة وأخرى قصيرة (رسائل من طاحونتي، عام ١۸٦٧ م؛ قصص الاثنين، عام ١۸٧٣.


تعال معي، رافقني في وادي الرون قلب البروفنس( فرنسة الجنوبيّة الغربيّة )، وقد سيّجت ضفّتيه أشجارُ الصنوبــــــــــر والبلوط الأخضر. متّع ناظريك بمرأى طاحونة سكنت أجنحتها منذ أكثر من عشرين عاماً حين غادرها أصحابها, فسامرتها عرائش عنب بريّة، وتطفّلت عليها أعشاب خضراء فمدّت بأيديها حتّى لامست أجنحتها! « ,
تعال معي، وانظر إلى السيّد دوديه وهو يعبّر عن ارتياحه بهذه الطاحونة رغم عجلتها المكسورة، ومصطبتها التي عششت بين أحجارها الحشائش، لماذا، ما سرّ هذا الجنون؟!
كلّ ما في الأمر أنّها تستُحضر شيطان شعره. لقد قبل بها رغم كلّ الأخطار التي تحيط بها، و أعفى البائع من كلّ التصليحات التي عليه القيام بها عادة، و صرّح بأنّه لن يطالبه بأيّ شيء منها.
وضع الشاعر دوديه على المكتب مالاً بالعملة المتداولة محدّداً سعراً للطاحونة، يقارب سعر السوق وقتها، أدهش السيّد ميتيفيو فما كان ليحلم به، فقبل به.
جرى كلّ ذلك سريعاً على مرأى من الكاتب بالعدل والشاهدَيْن الموقّّعَيِْن، و وُثّق البيع كتابة:
« كُتب صكّ البيع في بامبيريغوست بحضور السيّد فرانسي ماماي النافخ بالمزمار و السيّد لويزيه الملقّب بكويك حامل صليب الإخوة الأوّابين. وبعد تلاوة الصكّ قاما بالتوقيع عليه إلى جانب توقيعات المتعاقدَيْن و الكاتب بالعدل.. «

[]
الرسالة الأولى[/SIZE]

[SIZE="6"]تجهيز البيت للسكن


انظر ، ألا ترى معي الأرانب والدهشة ترتسم على وجوهها! لقد وقر في نفوسها منذ أمد غير قريب أنّها لن ترى(جنس) طحّان حين رأت باب الطاحونة يُغلق، و جدرانها ومصطبتها أخفتها الأعشاب، فراق لها أن تحوّل هذا المكان إلى حيّ يروده كلّ أفراد جنسها، ومركز لأعمالها الحربيّة: صارت تُدعى: طاحونة أرانب جمّاب ( منطقة فرنسيّة بلجيكيّة الأصل )...
لا تعجبن! فلقد حضر حوالَيْ عشرين أرنباً في تلك الليلة- و جلست على سطحها مشكّلة دائرة، تدفّئ أقدامها بنور القمر!! ما إن فُتِحت الكوّة في السقف حتى تفكّك المعسكر، و وولّت هذه البُنَيّات الأدبار و اختفت مبتعدة في الدغل.
آه، ما أشدّ شوقي إلى عودتها و التمتّع بمرآها!!
لا تعجبن! فليست الأرانب وحدها التي رسمت الدهشة على وجوهها حين رأتني، فقد دهشت معها دهشة أعجبَ بومة عجوز خبيثة كانت تسكن الطابق الأوّل من الطاحونة منذ أكثر من عشرين عاما، وجدتها في الغرفة العليا متصلّبة بلا حراك، قائمة على شجرة وسط أكوام ممّا سقط من البناء وممّا تكسّر من البلاط,. حدّقت بي لحظة بعينها المدوّرة، ثمّ بدا لي أنّه روّعها ألا تعرفني، فأخذت تنعق متذمّرة: هو،هو، وتصفّق متألّمة بجناحيها المغبرّتين– يا لهمزات الشيطان! إنّها لا تسكت على أمر. فلتفعل ما تريد فهذا لا يضرّني بشيء، لكنّ ما يُرعب شرر تصوّبه إليّ عيناها، وعبوس يرتسم به وجهها المكفهرّ. أمّا هذا الساكن الصامت فيعجبني أكثر من الأخرى، ولا مانع لديّ أن أُجدّد له عقد الإيجار. إنّه مازال- كما كان يفعل من قبل- يلزم قمّة الطاحونة مع فتحة في السقف يحتاجها، أمّا أنا فسأكتفي بالغرفة الدنيا، وهي غرفة صغيرة منخفضة مبيّضة بالكلس، ذات قُبّة توهمك أنّها قاعة للطعام في دير.
من هذا المكان أكتب إليك، و بابي مفتوح على مصراعيه تعانقني أشعّة الشمس الناعمة. وتلك ذرى مرتفعات البروفنس الكلسيّة تتراءى في الأفق، و ذاك تلٌّ مغطّى من قمّته حتى سفحه بحرش صنوبر بديع، وهو يتألق حين يسقط عليه الضوء. لا ضجّة، ولا صخب، بل هدوء مريح، لا يخرقه من حين إلى حين سوى نغمات مزمار، أو شدو كروان في رياض الخزامى، أو رنين جُرَيْس في عنق بغل على الطريق.
تلك المناظر ما صارت خلابة تُمتّع الأنظار لولا ضوء ساطع يغمرها.
فكيف تريدني الآن أن آسف على باريسك الصاخبة الكالحة؟! فأنا مرتاح أيّما راحة في الطاحونة! هذا ما كنت أبحث عنه:
ركنٌ طيّب الرائحة دافئ، حيث تنتشر آلاف الأمكنة لقراءة الجرائد. كلّ ما حولي بديع، فما هي إلا ثمانية أيّام منذ أن سكنت، حنى انطبعت مخيّلتي بالأحداث و ملأتها الذكريات..خذ مثلاً – ليس من زمن بعيد ، البارحة مساء- مشاهدتي رواح قطعان الماشية ( رجوعها مساء) إلى المزارع الواقعة أسفل الجبل، أقسم لك: أنا لا أستبدل بهذا المشهد كلّ عروض باريس المسرحيّة في هذا الأسبوع. أرى أن توازن بين الأمرين!
أقول لك: اعتاد الناس في البروفنس أن يأتوا بماشيَتهم إلى جبال الألب حين ترتفع حرارتها. هناك في العلوّ، يُمضي الناس والحيوانات خمسة أشهر أو ستّة في العراء، حيث الحشائش التي تصل بطولها إلى البطون، فإذا جاء الخريف و ارتعشوا رعشة واحدة هبطوا إلى المزارع في سفح الجبل، حيث ينعمون بالتلال الصغيرة الرماديّة بعِطرها ونداها..
عادت قطعان الماشية مساء أمس بعد أن كان كلّ شيء معدّاً لاستقبالها، فالبوابة فتحت منذ الصباح على مصراعيها في انتظارها، والحظائر زُوِّدت بالتبن الطريّ. خلال النهار كانت تتردّد من ساعة إلى أخرى مثل هذه العبارة: (الآن قطعان الماشية في ايغيير ، الآن قطعان الماشية في بارا دو..)، وفجأة سُمِعت صيحة عالية في المساء(ها هي، لقد وصلت)، ومن بعيد رأينا القطيع يقترب ترافقه عجاجة من تراب.
تقدّمت القطيعَ كبرى الأكباش ، و تلتها الخرفان الضخمة، فالأمّات ( أمّهات الحيوانات) الفتيّة وعند أقدامها صغارها الرضيعة. أمّا البغال فعلى ظهورها سلال فيها حملان لها من العمر يوم واحد- تأرجحها في سيرها، وفي ذيل القطيع كلاب تتعرّق، و تدلّّت ألسنتها من اللهاث حتّى بلغت الأرض، يرافقها راعيان كبيران لئيمان يلتفّان بمعطفين أصفرين يصلان إلى الأرض فيغطيان أكعابهما.
كلّ هذا يمرّ قبالتنا، عابراً البوّابة فيغمرنا حبورا، فتخيّل ما يقع في الدار من حياة و حركة! وانظر إلى الطواويس الضخمة بلونها الأخضر الذهبيّ جاثمةً في الأوج تتحقّق من القادمين، ثمّ ترحّب بهم بنغمات بوق بديعة، و إلى الدجاج في خمّة وهو ينهض مذعورا من نومه. لقد استعدّ الجميع: الحمائم و البطّ و ديوك الحبش ( الروميّة) ودجاج السند( الغينيّ)،لقد أصاب الخبل كلّ طير في الحقل!.. الدجاجات مثلاً تتهيّأ للسهر ليٍٍلا!.. سوف يزعمون أنّ كلّ خروف حمل في صوفه مع عِطر الألب البريّ بعض هواء الجبال الذي يبعث في الروح نشوة، ويسكر الجسد فيرقص. وفي خِضمّ كلّ هذا يعود القطيع إلى مأواه، فما أحلى الرجوع إليه!! هاهي الأكباش تسعدها ردّتها إلى مسقط رأسها، والحملان الصغرى التي ولدت في الرحلة و ما كان لها قبل اليوم أن ترى المزرعة، تتنقّل بأنظارها مدهوشة بما يحيط به.
أما إذا أحببت أن تتمتّع بالمنظر الأروع، فانظر إلى الكلاب، كلاب الراعي الشجاعة التي تنبّهت بكلّ أحاسيسها للد فاع عن الحيوانات المكلفة بها، و ما كانت لترى سواها في كلّ هذه البراري. انظر إلى *** الحراسة يشير لها إلى دلو الآبار المشرع بالماء العذب، يدعوها أن ترويَ عطشها ، بيد أنها لا ترغب أن ترى شيئاً، و لا أن تسمع بأمر قبل أن تدخل الأنعام، ويُغلقَ الباب الصغير ومنافذه بالمزلاج، و يتحلّقَ الرعاة حول الطاولة في القاعة السفلى ويشربوا الحساء كلّه، ويرووا لرفاقهم ما فعلوا في الأعلى على الجبل الأرجوانيّ النديّ من ذروته حتى سفوحه، حينئذٍ–فقط- ترضى بالدخول إلى وجارها (بيت ال***)،.

عبير الورد
05-03-2008, 03:24 PM
من هذا المكان أكتب إليك، و بابي مفتوح على مصراعيه تعانقني أشعّة الشمس الناعمة. وتلك ذرى مرتفعات البروفنس الكلسيّة تتراءى في الأفق، و ذاك تلٌّ مغطّى من قمّته حتى سفحه بحرش صنوبر بديع، وهو يتألق حين يسقط عليه الضوء. لا ضجّة، ولا صخب، بل هدوء مريح، لا يخرقه من حين إلى حين سوى نغمات مزمار، أو شدو كروان في رياض الخزامى، أو رنين جُرَيْس في عنق بغل على الطريق.

الوصف جميل جدا


و إلى الدجاج في خمّة

هل تقصد قن الدجاج ؟


من المتابعين .

فيصل الملوحي
05-03-2008, 05:56 PM
الخُمُّ، بالضم‏:‏ قَفَصُ الدَّجاجِ
مع تحياتي-فيصل

فيصل الملوحي
05-24-2008, 08:35 AM
رسائل الطاحونة
Lettres de mon moulin
Alphonse Daudet



للكاتب: ألفونس دوديه
• عربها: فيصل الملوحي

أ
لفونس دوديه

من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة:


ولد ألفونس دوديه (Alphonse Daudet)في مدينة (نيم) الفرنسيّة عام ١٨٤٠م،وألجأه فقر أسرته أن يصبح معلماً في معهد – أليس- وهو شابٌّ صغير ، عاش في (نِيمْ حتى عام ١۸٤٠ ثم في باريس حتى توفي عام ١۸٩٧ م)
ارتبط بالمدرسة الطبيعية، وامتزجت في أعماله اللوحات الواقعية للحياة اليومية بالخيال. ألف عدداً من الروايات: (ذلك الشيء الهيّن، عام ١۸٦۸ م ؛ تارتاران من كاركاسون عام ١۸٧٢ م؛ سافو، عام ١۸۸٤ م) بالإضافة إلى قصص طويلة وأخرى قصيرة (رسائل من طاحونتي، عام ١۸٦٧ م؛ قصص الاثنين، عام ١۸٧٣.



تمهيد

تعال معي، رافقني في وادي الرون قلب البروفنس( فرنسة الجنوبيّة الغربيّة )، وقد سيّجت ضفّتيه أشجارُ الصنوبــــــــــر والبلوط الأخضر. متّع ناظريك بمرأى طاحونة سكنت أجنحتها منذ أكثر من عشرين عاماً حين غادرها أصحابها, فسامرتها عرائش عنب بريّة، وتطفّلت عليها أعشاب خضراء فمدّت بأيديها حتّى لامست أجنحتها! « ,
تعال معي، وانظر إلى السيّد دوديه وهو يعبّر عن ارتياحه لهذه الطاحونة رغم عجلتها المكسورة، ومصطبتها التي عششت بين أحجارها الحشائش، لماذا، ما سرّ هذا الجنون؟!
كلّ ما في الأمر أنّها تستُحضر شيطان شعره. لقد قبل بها رغم كلّ مشكلاتها، و أعفى البائع من كلّ التصليحات التي عليه القيام بها عادة، و صرّح بأنّه لن يطالبه بأيّ شيء منها.
وضع الشاعر دوديه على المكتب مالاً بالعملة المتداولة محدّداً سعراً للطاحونة، يقارب سعر السوق وقتها، أدهش السيّد ميتيفيو فما كان ليحلم به، فقبل به.
جرى ذلك سريعاً على مرأى من الكاتب بالعدل والشاهدَيْن الموقّّعَيِْن ومسمعهم، ووُثّق البيع كتابة:
« كُتب صكّ البيع في بامبيريغوست بحضور السيّد فرانسي ماماي النافخ بالمزمار و السيّد لويزيه الملقّب بكويك حامل صليب الإخوة الأوّابين. وبعد تلاوة الصكّ قاما بالتوقيع عليه إلى جانب توقيعات المتعاقدَيْن و الكاتب بالعدل.. «




الرسالة الثانية
في الحنطور الإمبراطوري



كان من قبل حلما طالما انتظرته، أما في ذلك اليوم فما عاد حلماً و لا انتظارا، بل صار واقعاً أحياه وأتمتّع به حين ركبت تلك العربة القديمة، لكنّ قدمها لم يؤثّر في متانتها.
وصلت إلى هذه البلدة على متن تلك الحافلة الإمبراطورية الفخمة!! ( حنطور بوكير).
أتودّ – صديقي الباريسيّ - أن تنصت إلى حديثي عنها، و تسمع حكاية رحلتي فيها، و تتعرّف على شخصيّات ركابها!
كنا خمسة غير الحوذيّ
- الأول حارس في كامارغ أشعر( كثير الشعر)، قامته قصيرة وبدنه ممتلئ، وعيناه واسعتان محمرتان، وفي أذنيه حلقتان فضّيتان، تشمّ في جسده رائحة حيوان،
- ثمّ رجلان آخران من بوكير: خبّاز ويليه عجّان، بحمرة قانية يتنفّسان بعسر، لكنّ لهما طلعة بهيّة، يعلّقان وسامين ( ميداليّتين ) روميّتين ( رومانيّتين ) تحملان صورتي فيتيليوس.
- أمّا الأخير فجلس قرب السائق، كنت أحدّق فيه، وأتساءل في نفسي: هل ما تراه عيناي رجل؟! ثمّ قرّ في نفسي أنّه ما كان في الحقيقة رجلاً، إنّما قبّعة ضخمة مقرفة صنعت من جلد أرنب! قليل الكلام، أمضى وقته في مراقبة الطريق.
جمعت أصحابنا معرفة قديمة، فما كان لديهم حرج في أن يرفعوا أصواتهم وهم يتحدّثون في شؤونهم الخاصّة. روى لنا صاحبنا الكامارغي بأنّه جاء من نيم هرباً من التحقيق في قضيّة ضربِه راعياً بمذراة، لقد كان دمه حامياُ في كامارغ.
أمّا صاحبانا البوكيريان فتحدّثا وهما يتجادلان عن احتفائهما بالسيّدة مريم البتول؟! فالخبّاز- كما فهمت من حديثه - أقام مدّة غير قصيرة في أبرشيّة، ونذر نفسه فيها لخدمة صورة السيّدة مريم البتول وبين ذراعيها طفلها عيسى ( اليسوع )، التي كان أهل البروفنس يسمّونها الأمّ الحنون. والطحّان كان ينشد على منصّة كنيسة عصريّة جدّاً مخصّصة للحبَل بلا دنس، ونذر نفسه فيها لخدمة صورة بهيّة مبتسمة ظهرت فيها ذراعان ممتدّتان، وكفّان فيّاضتان بالنور. فوقع النزاع بينهما. كنت أصغي بكلّ جوارحي لأتعرّف على حقيقة الاختلاف بين الفضيلتين الكاثوليكيّتين، وتفسير كلّ منهما لصورة السيّدة مريم البتول التي آمن بها، و تمجيده لها. كلٌّ يُمجِّد دينه: أصورة الأمّ الحنون أفضل، أم صورة الحبَل بلا دنس، فما أفاداني بشيء وما توصّلت إلى الحكم: أيّهما الصحيح!
احتدّ نقاشهما، حتّى خشيت أن تخرج السكاكين من مخابئها، لولا أنّ الحوذيّ تدخّل بحُنكته لفضّ النزاع فقال وهو يضحك:
دعانا من صورتيكما، و أريحانا من هذا النقاش، ما كلّ هذا إلا سوالف حريم، و عيب على الرجال أن يهبطوا إلى هذا الدرك من الإسفاف!
ثمّ بهزّة من سوطه أوحى بالشكّ بهذه الفكرة، فسكت الجميع يقرّون برأيه !
بمثل هذا الأسلوب الحكيم أنقذنا الحوذيّ من المأزق، لكنّ الخبّاز أراد أن يتخلّص ممّا تبقّى من عنفوانه، فانقلب إلى تلك القبّعة المحشورة في الزاوية ببؤسها وصمتها وحزنها، وقال
لها وهو يسخر: وامرأتك، أنتَ، يا أرعن، ما الأبرشيّة التي تتبعها؟
لا يخفى أن في كلام الرجل سخرية لاذعة، جعلت كلّ مَنْ في العربة يُفجِّرون ضحكة مجلجلة. أمّا صاحبنا فلم يهتزّ، ولم يضحك، فكأنّه لم يسمع شيئا! فلمّا رأى الخبّاز منه ذلك التفت إليّ قائلاً: أيّها الرجل، أتعرف امرأته؟إنّها من أتعس النساء اللائي يعشن في أبرشيّة، فوالله مالها من مثيل في بوكير.
تكرّر الضحك، ومع ذلك لم يهتزّ صاحبنا، و ظلّ يردّد بصوت خفيض دون أن يرفع رأسه: اخرس، أيّها الخبّاز!
لكنّ هذا الخبّاز الملعون ما كان يرغب في السكوت، وكرّر فعلته بكلام أملح:
أيعقل ألا يضيق صاحبَنا بامرأةٌ على هذه الشاكلة: لا يمكنها أن تجد وقتاً للاستماع إلى همومه، و لا تسلم حين تذهب إلى عملها ممّن يُؤذيها أذى عنيفاً مهيناً ، ولا تتخلّى عن سفرها إلى أسبانيّة بصحبة تاجر ( شوكولا)! ألا ترى في هذه الحياة الزوجيّة غرابة؟! هل يتخيّل أحدكم أنه لم يمض على زواجهما سوى عام واحد!
هي تسافر، أمّا هو فيلزم بيته وحيداً إلا مع دموعه وشرابه، فيتخيّل كلّ من يراه أنّه مجنون. وسيّدتنا الحسناء تعود كلّ حين إلى بلدها في زيّها الأسبانيّ تعلّق عليها طبلاً ذا أجراس، و أمّا رجلنا المهجور فنظنّ به الظنون، نخشى أن يقتلها، فننصحها أن تختفيَ عن نظره، ولكنهما يخيّبان الظنون.. انظر إليهما و قد أفضى بعضهما إلى بعض في هدوء وسكينة، وأخذت تعلّمه الضرب على دُّفها ذي الجلاجل!
و بدون أن يرفع صاحبنا رأسه يكرّر - وهو قابع في ركنه - كلمته بصوت خفيض: اخرس، أيّها الخبّاز! فأخذتنا نوبة أخرى من الضحك,
لكن الخبّاز لم يأبه إلى قوله، وتابع كلامه لي:
أتحسب –سيّدي – أنّ سيّدتنا الحسناء ثابت إلى رشدها بعد عودتها من أسبانيّة؟! لا، لا، ما كان ذلك، فقد ألفت هذه الأمور، وألفها زوجها معها! فبعد الأسبانيّ جاء ضابط، ثمّ بحّار من الرون، ثمّ موسيقار، وبعدها، من؟ لست أدري! ولكنْ لماذا لا ننظر إلى هذا السلوك من جانبه الحسن ؟ لماذا لا نتمتّع بهذه الملهاة التي تتكرّر في كلّ حين: المرأة تذهب، والرجل يبكي، ثمّ تعود فيسلو! أتصدّق أنّ زوجاً يصبر على امرأة مغرورة بجمالها، لا تخلو من رعونة، عصفورة مغرّدة حبّوبة حيويّتها شديدة ، ذات بشرة بيضاء وعينين كستناويتين (بُنيّتين ) تثبِّتهما على الرجال وهما تضحكان لهم.
( ألا ترى معي– صديقي الباريسيّ - أنّ بوكير بلد يفرض عليك زيارته!؟ )
آخ، ثمّ آخ منك أيّها الخبّاز، أرجوك، اصمت.. ويكرّر الأرعن المسكين قوله بصوته الذي يوحي بالتمزّق والاضطراب!!
في هذه اللحظة توقّف الحنطور عند بيوت انغلور ولم أنتبه إلى نزول البوكيريين، فما زال صوت الخبّاز الضاحك يملأ الساحة أمام البيوت.
بدا الحنطور فارغاً بعد أن غادره البوكيريان. والحارس الكامارغيّ الذي تركنا قبله. وأخذ الحوذيّ يتمشّى بجانب أحصنته.. كنّا وحدنا على ظهر العربة، أنا والأرعن، كلُّ في زاويته مطبقَيْن شفاهنا. كان الجوّ من حولنا حارّاً، وجلد الكراسي تحتنا ملتهبا. كنت أحسّ في بعض اللحظات بأجفان عينيّ تنطبق، وبرأسي يثقل، و لكن لا سبيل إلى النوم. كانت عبارة صاحبنا: <أرجوك، اخرس..!> تتردّد في أذنيّ شديدة الإيلام، ولكنّها شديدة الظرف -. ولم يستطع هذا الرجل المسكين النوم مثلي. كنت أراه من قفاه بمنكبيه العريضين المرتعدين، ويده الطويلة الشاحبة كيد شيخ ترتعش على ظهر المقعد. كان صاحبنا يبكي!
وفجأة أيقظني الحوذيّ وهو يصيح:
- ها قد وصلت إلى بيتك، أيّها الباريسيّ.
- وبطرف سوطه أشار إلى تلّتي الخضراء والمطحنة المثيرة كأنّها فراشة ضخمة في أعلى القمّة!
سارعت إلى النزول..ولكنْ أحببت أن أرى وجه الأرعن قبل أن أذهب، فحاولت أن أنظر تحت قبّعته في أثناء عبوري قربه، فلمّا فهم المسكين مرادي رفع رأسه مثبّتاً ناظريه في ناظريّ، وقال لي بصوته المخنوق:
- انظر إليّ جيّدا- أيّها السيّد -، فإذا سمعت في يوم قريب أنّ بائساً في بوكير ضرب أحداً ضربة قاتلة، فقل إنّي أعرفه.
كان وجها شاحباً حزيناً تبرز منه عينان دقيقتان ذابلتان دامعتان. ولكنْ لن أنسى ما أوحى لي صوته من حقد يولّده غضب الضعفاء! ولو كنت مكان تلك الرعناء لكان عليّ أن أحذر منه.

فيصل الملوحي
07-14-2008, 07:46 AM
رسائل الطاحونة

(الرسالة الثالثة )



سرّ المعلّم كورني



تحضرني اليوم ذكرى مأساة شهدت طاحونتي أحداثها قبل عشرين عاما، رواها لي معلّم النفخ في المزمار فرانسي ماما ، في أمسية من الأمسيات التي كنّا نتنادم فيها ونحن نحتسي قدحين من الشراب المعتّق. لقد جعلني ذلك الرجل الطيّب أُشغف أيّما شغف بهذه القصّة، فهو يأسرك بأسلوب سرده، بل بأسلوب حياته كلّها! فهل يسرّكم أن تستمعوا إليها؟
تصوّروا - أعزّائي القراء – أنّكم حظيتم بالجلوس فترة إلى معلّم للنفخ في المزمار ينادمكم، وأمامكم دنّ من الشراب تنتشون بعبيره المتفرّد قبل أن تتذوّقوه!
لا يخدعنّك– سيّدي الكريم- ما تراه اليوم، فما كان بلدنا خامل الذكر قديماً على هذه الشاكلة، بل سوقاً تجاريّاً مزدهراً، يُحمل إليه القمحَ من عشر مناطق تُحيط به ليُطحن فيها. كانت الطواحين الهوائية على التلال تحتضن القرية، وأجنحتها تحرّكها ريح الشَّمال حين تمرّ بأشجار الصنوبر، وأرتال ال**** تحمل أكياس القمحَ صاعدة هابطة على الطريق خلال الأسبوع كلّه، أمّا في العلوّ فما كان ألذّ سماع دويّ السياط وأصوات أُجَراء الطحّانين( دي – حا) تحثّها على السير.
في ذلك الزمان كنّا قد ألفنا أن نذهب إلى الطواحين أيّام الآحاد زُمَراً زمراً، فيكرمنا الطحّانون بشرابهم ( ذي الرائحة الممسكة، والمذاق الحلو)، والطحّانات برؤيتهنّ وهنّ يتجمّلن ّبخُمُرهنّ المخرّمة وصلبانهنّ الذهبيّة - كأنهنّ الملكات. كئت أجيء بمزماري، وأراقص السمّار رقصة الدبكة إلى آخر الليل البهيم.
كان لتلك الطّواحين فضل كبير على بلدنا في أنّها أسعدت أهله، وجعلت أفئدة الناس تهوي إليها وأجرت على أجنحتها رزقهم من الثمرات!
ألا تأسفون على أهل باريس الذين أقاموا طاحونة يشغّلها البخار في درب تاراسكون!! لا شكّ أنها جميلة حقّاً، جديدة كلّ الجِدّة!! فألفوا أن يرسلوا قمحهم إلى الطحّانين، وأراحوا أنفسهم من عناء حملها، أمّا الطواحين البائسة التي يدوّرها الهواء فقد أقفلت أبوابها بعد أن قاومت حقبة من الزمان، ولكنّ البخار كان الأقوى فغلبها، فاضطرّت أن تتوقّف عن العمل..
اختفت أرتال ال**** بأحمالها من القمح، وباعت الطحّانات صلبانهنّ الذهبيّة، وحُرمنا شرابهنّ ورقصة الدبكة معهنّ، و تلقّت ريح الشمال طعنة نجلاء، فما عادت تتمكّن من تدوير الطواحين..
ها هي النهاية، لقد أذعنت القرية، فهجرت ما ألفته، ورضيت بأن تقيم أوَدََها بالزيتون وعنب الكروم وتعتمد عليهما في حياتها.
..اللهمّ إلا طاحونة واحدة صمدت رغم كلّ ما أحدثته الكارثة، و ظلّت تعمل بكلّ جرأة تحت أنظار الطحانين وملء أسماعهم! إنّها طاحونة المعلّم كورني، حيث نقضي سهرتنا الآن.
* * * * *
كان المعلّم كورني من أقدم الطحّانين، يعيش منذ ستين عاماً في الطحين، متذمّراً من هذه الحياة. وحين بُنيت الطواحين البخاريّة صار أشبه بمجنون ، وظلّ ثمانية أيّام يسعى في القرية من هنا إلى هناك يحرّض أهليها بأعلى صوته قائلاً: انظروا، إنّهم يريدون تلويث البروفانس بطحين الطواحين. إيّاكم أن تذهبوا هناك ، فلن تجدوا غير اللصوص، وما البخار سوى أُحبولة الشيطان، أمّا أنا فلا أعمل إلا مع رياح الشَّمال التي هي من روح الله.. لقد تدفّقت الكلمات على لسانه تمجّد الطواحين الهوائيّة، لكنّ أحداً لم يسمعها.
فلم يجد من سبيل له سوى أن يغلق عليه باب طاحونته، ويحيا منعزلاً بعيداُ عن الخَلْق كأنّه بهيمة مستنفرة، حتى إنّه أبى أن يتكفّل بتربية حفيدته فيفيت في ربيعها الخامس عشر، وهو الوحيد الذي بقي لديها في هذا العالم بعد وفاة أبويها. فاضطرّت أن تتكفّف رزقها، وتسكن في بيت ريفيّ، وتكسب أقلّ القليل في الحصاد وجمع دود القزّ وقطاف الزيتون، رغم أنّ جدّها كان يُبدي نحوها حبّاً شديداً، ويذهب ليراها حيث تعمل في الريف، فيقطع مسافات طويلة يمشيها على قدميه، وتحت أشعّة الشمس المحرقة، أمّا إذا كان قريباً منها، فكان يقضي ساعاتٍ وساعاتٍ ينظر إليها وهو ينتحب!
لقد أنكر أهل البلد بشدّة هذا التصرف من الطحان الشيخ، ورأَوْا أنّّ الطمع دافعه الوحيد ، فهل من المروءة أن تترك بنيّة فتتشرّد في المزارع، تعرض خدمتها على البشر المتوحشّين؟! كان المعلّم كورني الرجل ذائع الصيت محترماً قبل هذا، فما أشنع أن يتحوّل إلى بوهيميّ يتسكّع في الأزقّة حافياً، بقلنسوته المثقّبة، وقميصه البالي. أمّا في يوم الأحد فكان الشعور بالخزي يتملّكنا – نحن كبار السنّ مثله- حين نراه لا يجرؤ على الجلوس في صفّتا على مقاعد الكنيسة، ويكتفي بالوقوف في مؤخّرة الكنيسة في صفّ الفقراء، حيث جرن الماء المقّدّس.
كنّا نعجب من أمر كان غامضاً في حياة المعلّم كورني. لم يكن أيّ رجل من القرية يأتيه بالقمح لطحنه، ولكنّ جنيحات الطاحونة كانت كالأيّام السالفة تلفّ بلا توقّف في النهار.. ثمّ تلقاه في المساء على قارعة الطريق يقود ****ه المحمّل بالطحين في أكياس ضخمة.
- كان الفلاحون يصيحون بملء أصواتهم: قدّوس، قدّوس، مازالت الطاحون تعمل، وتعطيك من خيرها؟!
- ويجيبهم الشيخ رابط الجأش: بلا انقطاع، يا أولادي، والحمد لله، ليس ما ينقصنا سوى فتح الطاحونة!
- ولو سألوه: و كيف لك أن تفتحها؟! فيضع إصبعه على شفتيه، ويردّ بوقار: صه( هس،) إنّما أعمل لهذا، وليس بالإمكان أبدع ممّا كان!!
ما كان لأحد أن يحلم بدخول مطحنته، حتى حفيدته لم تتمكّن من هذا!! ولو مررت أمام الطاحون لرأيت بابها دائماً مغلقا، وجُنَيحيها الكبيرين لا يفتران عن الحركة. وال**** العجوز يرعى حشائش المصطبة، وقطّاً كبيراً هزيلاً انتحى جانب الشمس على حافّة الشبّاك ينظر إليك نظرة تُريبك!!
شطّ الخيال بالناس يبغون الكشف عن سرّ هذا الغموض! فكان كلٌّ منهم يفسّره على هواه، لكنّ الشائعة الأقوى التي سرت أن في الطاحون أكياساً معبّأة بالمال أكثر من الأكياس المعبّأة بالطحين!!


لكنّ الزمن كشف عن هذا السرّ، فأنصتوا إليّ:


في يوم مشرق جميل كنت أرقّّّّص الفتيان بمزماري، فاكتشفت أنّ ابنيَ البكر والصغيرة فيفيت واقعان في الغرام. ما غضبت للأمر، فما أشرّف أن نناسب المعلّم كورني! ثمّ هل هناك أجمل من( نطنطة) العصفورة الصغيرة فيفيت في بيتي! سوى أنّي أحببت أن أسوّيَ الأمر فوراً خشية وقوع ما لا تحمد عقباه!! فما كان أكثر فرص التقاء العاشقَيْن!! صعدت إلى الطاحون لأبلّغ الجدّ الأمانة في كلمتين.. لكنّ الشيخ الخبيث تلقّاني بأبشع طريقة تخطر لك، لم يقتنع بفتح الباب. قدّمت إليه أسبابي ( كيفما كان ) من خلال شقّ القُفل، و فوق رأسي القطّ العجوز الهزيل اللئيم يصفر كالشيطان!
لم يتركني أكمل كلامي، بل صاح بكلّ وقاحة أن أعود إلى مزماري، وإن رغبت في أن أُسرّع زواج ولدي فلأبحث له عن بنت أخرى من بنات الطاحونة!! لقد وقعت هذه الكلمات الفظّة على رأسي كالصاعقة، فغلى الدم في عروقي، بيد أنّي هدّأت نفسي بكل ما أستطيع تاركاً هذا الشيخ المجنون لطاحونته، وعدت لأبلّغ الولدين بخيبة أملي..لكنّ هذين البريئين لم يصدّقا أُذنيهما، ورجواني أن يصعدا معاً إلى الطاحونة لمحادثة الجدّ.. فلم أجرؤ على الرفض. وبلمح البصر اختفى العاشقان، وعند وصولهما كان المعلّم كورني قد خرج، والباب مغلق، بيد أنّ المسكين نسي السُلّمَ خارج الطاحونة، فقفزت الفكرة إلى مخيّلتي الولدين: لماذا لا يدخلان من النافذة، ويكشفان عمّا في هذه الطاحونة المشهورة؟!
لم يجدا في الطاحونة ما يُدهشهما سوى أنّها فارغة، فلا أكياس، و لا قمح، و لا ذرّةَ طحين في أنحائها، حتى رائحة القمح الساخنة التي تعطّر المكان أثناء طحنه لم يشمّاها، والمصطبة غطّاها الغبار، وفي العلوّ اضطجع القطّ العجوز الهزيل على جنبه نائما!!
لم تختلف غرفة الطاحونة الدنيا في مظهرها عن طابقها الأعلى، فهي مثله مهجورة مهملة، كلّ ما تحويه سرير خرب و خِرَق و كِسْرة خبز على درجة من السُّلّم، ثمّ ثلاثة أكياس أو أربعة مهترئة في زاوية تكسّرت أرضيّتها البيضاء.
هذا سرّ المعلّم كورني! فما كان إلا خدعة يروّجها في القرية، غايتها أن يحافظ على شرف الطاحونة، وأن يعتقد النّاس بأنّ صنع الطحين لم ينقطع. ما أبأس تلك الطاحونة، بل ما أبأس كورني! فمنذ أمد ليس بالقصير لم تُبق طواحين البخار لها ما تنتفع به. كانت الجنيحات تلفّ في الهواء وتلفّ، و الطاحون تدور و تدور وبطنها فارغ!!
عاد الولدان و قد اغرورقت عيونهما بالدموع، وحكيا لي ما شاهداه، فانفطر قلبي. و لكنّي لم أُُضع دقيقة واحدة، وجريت إلى الجيران أروي لهم القصّة باختصار، وا تفقنا أنّ نأخذ فوراً كلّ ما في دورنا من قمح إلى الطاحون.. وصدّق العمل القول. صارت القرية كلّها في الطريق، ووصلنا إليها مع موكب ال**** المحمّل بالقمح، القمح الحقيقي، و كان ما كان!
كانت الطاحون في استقبالنا، و المعلّم كورني جالساً على كيس جِصّ يبكي، ورأسه بين يديه. لقد علم– حين عاد - أنّ الطاحون اقتُحِمت حين غاب عنها، وافتُضح سرّه البائس!! ثمّ قال:
- ما أتعسني! لا أجد مفرّاً لي إلا الموت، لقد دُنِّس شرف الطاحون!
- و زفر زفرة تُفتِّت الأكباد، وأخذ يكلّم الطاحون كأنّها بشر سويّ، و يناديها بكلّ اسم هو لها. وصل ال**** في تلك اللحظة إلى مصطبة الطاحون، و صحنا جميعاً صيحة مجلجلة تذكّرنا بزمن الطحّانين البديع.
- هيّا هيّا يا طاحونتنا، هيّا هيّا يا معلّمنا كورني!!
و من فورنا أنزلنا الأكياس أمام الباب، فانتثر الحبّ الذهبيّ على الأرض يملأ المكان...
فنظر المعلّم كورني نظرة أذهلته، وقبض قبضة من القمح، و و ضعها في كفّه الهرم، قائلاً- وأنت لا تدري أكان يضحك أم يبكي!-:
- أهذا قمح!! إلهي و سيّدي، القمح المبارك!.. دعوني أنظر إليه!
ثمّ قال – وهو يلتفت إلينا-:
- نعم! نعم! كنت على يقين أنّكم ستعودون إليّ.. فما أولئك الطحّانون على البخار إلا لصوص( بوّاقون - حراميّة ).
كنّا نحاول أن نعيده إلى القرية في زفّة انتصار، و لكنّه قال:
- لا، لا يا أولادي، عليّ أولاً أن أُطعم طاحونتي، انظروا إليها، فهي لم تضع شيئاً تحت أضراسها منذ زمن بعيد!
ذرف كلّ الحاضرين دموعهم عندما رأَوْا هذا الشيخ البائس يترنّح يميناً ويساراً، وهو يُفتِّح الأكياس، ويراقب الطحِن، في حين يتكسّر الحبّ، ويتطاير غبار القمح الناعم إلى أعلى الطاحون.
لقد تكفّلنا منذ ذلك اليوم أن نساعد الطحّان الهرم دائماً في الإبقاء على الطاحون مفتوحة.
ثمّ كان ذلك الصباح، مات فيه المعلّم كورني، فتوقّفت إلى الأبد في هذه المرّة جُنَيْحات آخر طاحونة هواء لنا عن الدوران..
مات كورني، ولم يخلفه بشر. هل منكم أحد لديه اعتراض؟! فكلّ شيء في هذه الدنيا إلى زوال، ونحن موقنون أن الزمان قد ولّى بطواحين الهواء ، مثلما فعل بقوارب الخيل، حين اضطرها إلى هجر شاطئي نهر الرون،

همس الرووح
07-20-2008, 10:29 PM
أخي فيصل لا شك أن الرسالة

وصلت وقد وصلت حتماً حبذا لو

اختصرتها كثيراً في أربع أقسام


تكون أفضل للقراءة المتمعّنة


أخي بارك الله فيك .... دمت بخير

فيصل الملوحي
11-24-2009, 05:44 AM
همس الروح، و لاحاجة لمزيد من الألقاب



بورك ذوقك الرفيع.