زين العابدين
04-22-2008, 04:44 PM
أريج الطباع
- اصبرْ يا أبي، ما علينا سِوَى الصّبرِ حينما يكونُ الظلمُ مِنَ العِباد!
.. وكأنَّها سمعتْ صوتَ ابتسامتهِ وهوَ يجيبها باسترخاءٍ:
- كلاّ يا ابنتي، ليسَ صبراً فحسبُ، بلْ هوَ الرّضا مادامتِ الأمورُ مِن عندِ الله.. فأنا أثقُ أنّ اللهَ قدّر هذا، وراضٍ بقضائهِ..
شعورُ الرِّضا - يا ابنتي - يمدُّنا بالقوّةِ حينما نعجَزُ، ويرسمُ الابتسامةَ على شِفاهِنا مهما كانَ الألم!
كانتْ ماتزالُ تشعرُ بألمٍ ينغزُ صدرَها وهِيَ تتذكَّرُ الظلمَ الذي يقعُ بالدُّنيا أحيانًا، لكنَّ كلامَ والدِها كانَ كالبلسمِ على قلبِها.. تنهّدتْ براحةٍ وهي تردُّ عليه:
- لا حرمَني اللهُ منكَ .. أبي.
- رضيَ الله عنكِ يا ابنَتي، يشهدُ الله أنّي راضٍ عنك وعن إخوتكِ، مهما فعلتُ أبقى مقصّراً معَكم.. سامحوني وثِقوا أنّي أحبُّكم وأقدِّرُ كمْ تحمَّلتمْ معي..
- لا، لا تقُل هذا، نحنُ مَن يجِبُ أنْ يقدّر... أنتَ أيضاً تحمّلتَ الكثيرَ يا أبي.. لا حرمنا الله منك.
.. هُناكَ، على شاطئ البحرِ، لوَّحَ مِن بينِ الأمواجِ لصغيرتهِ التي تلهُوْ بالرِّمال..
لوّحتْ لهُ بسعادةٍ وبراءةٍ وهي تؤشِّر لهُ على قَصرِها الذي بنَتْهُ بالرِّمالِ، ولا زالتِ الأمواجُ تعاندها فتهدمُه!
وقرْبَها.. وقفتْ والدتُها تصوِّرُهما بكاميرا الفيديو..
ذهبَ زوجُها يسبحُ بعيدًا، ولحِقتْهُ شاشةُ الكاميرا لترافقهُ عَن بُعد..
لوَّح بيده ... ثُم كأنَّ شيئًا ما يسحبُه!!
غاص، ثمَّ ارتفعَ ثانيةً وهوَ يلوح...
لوهلةٍ لمْ تستوعبْ ما حصلَ... وما هي إلاّ لحظاتٌ حتّى غابَ عنْ ناظرَيها..
قرّبَتِ الكاميرا أكثر .. أينَ هُو؟!
لمْ تعُدْ تراهُ!!
.. كانوا يتسوّقون، لا زالت لم تنتهِ مِن جَهازها بعدُ.. وقدْ بدأ العدُّ التنازليّ لفرَحها..
كانتْ هي وأُختُها وأخوها معاً..
رنَّ الجوّال:
- والدُكما متعَبٌ قليلاً، متى ستعودان للبيت؟
- متعَب!! كيف؟ هل حصلَ له شيء؟
- لا، لا تقلقوا! فقطْ لا تتأخّروا بالسُّوق!
انشغلَ بالُها، وعادتْ لذاكرتِها أحداثُ حلمِها بالأمْسِ..
كانتْ قلقةً، حلمتْ بهِ يموت!!
هزّت رأسها نافيةً الأمرَ؛ ليس سوى أضغاثِ أحلامٍ!
كانَ يحدِّثها اليومَ على الهاتفِ صَباحاً، حكى لها كثيراً عن الرِّضا.. كان مريحاً، ونشيطاً..
- إيمان، انظُري لهذا، هل يعجبكِ؟ أظنُّه سيناسبُ حفلةً هادئةً بعد الزواج، ما رأيك؟
تبسمتْ وهي تُخرجُ جوّالها الذي وصلته رسالة أيضاً:
"عظّم اللهُ أجرَكم، وغفرَ لميتِكُمْ"
شهقتْ بصوتٍ خافت، ثم بلعتْها فوراً.. لوهلةٍ توقفتْ دقّاتُ قلبِها. وتلفَّتتْ لأقربِ حائط لتستندَ عليه!
وتَمتَمَتْ بصوتٍ خافتٍ، ولسعاتٌ حارّة من العبَرات تُحرقُ عينَيها مِن خَلف غطاءِ وجهها:
- اللّهمّ أْجُرنيْ في مصيبتي واخلفني خَيراً منها، لا حولَ ولا قوّة إلا بالله!
تماسكتْ، لنْ تُشعرَهُم بشيءٍ، حتى يعودوا للبيتِ ليتلقّوا الخبرَ بهُدوء...
بعدَ بحثٍ طويل، وجدهُ أخوه هناكَ طافياً على البحر..
ولاشُعوريًّا، خرجت منه بقوة: الحمدُ لله.. الحمد لله.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
ربّما هي يدُه التي ارتفعتْ بالتشهد بوضوح، كانت كافيةً أنْ يحمدَ الله حتى وهو يراهُ طافياً بهذهِ الصُّورة..
ربّما تكونُ ردَّةُ فعلٍ لابتسامةِ الرِّضا التي توَّجتْ وجههُ المزرَقَّ!
أمّا زوجتُه فقد خانتها العبَراتُ الحارَّة التي تُحرقُ عينيها، وتَعجز عن منعها من السقوط حارَّةً على وجنتَيها..
وتردِّدُ: لا حولَ ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله...
كانت لا تزال تكبتُ عبراتِها الحارقة، وتبتسمُ حتّى مِن خلفِ (غطْوَتِها)، كأنّها تَخشى أنْ يراها إخوتُها فيكتشِفوا..
وبخِفَّةٍ سحبتْ جوّال أخيها، وقالتْ أريدُ التأكدَ من الساعة.. وبحركةٍ سريعة فتحت الرسائل، لا شكّ وصلتهُ الرسالة.. ستمسحُها قبلَ أنْ يقرأها، فهو الذي يقودُ بهم، وتخشى أن يؤثرَ عليه حُزنه!
ألمٌ شديدٌ كان ينغزُ قلبَها، وتتنهّدُ بعمقٍ لتطردَه.. وتنظرُ من الشبّاكِ، تُشيحُ بوجهِها بَعيداً، كأنّها تَخشى أنْ تنظرَ حولَها.
فتغلبُها عَبَراتها.. وهُناك وقعتْ عينُها على آيةٍ خُطّتْ على مسجدٍ قُربَ إشارة مرورٍ توقفوا عندها:
{إنّا نَحنُ نَرِثُ الأرضَ ومَنْ عَلَيها وإليْنَا يرجعونَ}
سُبحان الله، تمرُّ كثيرًا بجوار هذا المسجد، ولمْ تقرأ يومًا هذه العبارة!
فهل أرادَ الله لها أنْ تقرأها اليومَ ليطمئنَّ قلبُها؟ سبحانَ الله..
كالماءِ شعرتْ به يغسلُ ذلك الألمَ الحارق..
وعادتْ كلمات والدها عن الرِّضا ترِنُّ بأذنها..
ونِعمَ بالله أبي، ونعمَ بالله.. سأكونُ راضيةً بإذن الله، ولنْ أصبر فحسب.
رغمَ أنّه يعزُّ عليها أنْ تفكرَ، كيف كانت تدعو صباحاً ألاَّ يَحرمَها الله منه، لكنّها ما تخيَّلت الأمر سيسيرُ سريعًا بهذه الدرجة!
تثقُ بأنّ اللهَ أرادَ لهُ ولهمُ الخير، وسترضى رغم الفراغِ الذي تشعرُ به بقلبها، لكنّه امتلأَ يقينًا وثقةً أراحتْها..
استقبلَتهُم أُختهم الصغيرةُ قائلةً ببراءة:
- بابا ذهبَ للبحرِ ولمْ يعُد بعدُ!!
حمَلتها بحنانٍ وهي تقبّلها وتقول لها:
- حبيبتي ، ربَّما لنْ يعود!
- لن يعود!! كيف؟ ولن يأخذَني لحديقةِ الألعاب؟ لقد وعدني بهذا! وبابا لا يُخلف وعدَه.
تبسَّمتْ أمُّها وهي تخنقُ عبراتها، وتفكِّر بصوت عال:
- صغيرتي ليستِ الدُّنيا هي قرارَنا! ليستْ سوى محطة.. وقد سبقَنا والدُكِ لمحطةٍ أُخرى أبعدَ قليلاً..
يجبُ أن نستعدَّ لنتقابلَ معه يوماً كما وعدَنا اللهُ، هناك حيث يومُ الوعد سيكون التلاقي.
.. ها هي أختُها تقوم فزِعةً ثانية..
- إيمان.. إيمان، لا زلتُ أراهُ كلَّما غفوتُ!
لا زال صوتُه يرِنُّ بأذني..
بكتْ أكثر حينما حضنتْها إيمانُ تحاولُ التخفيف عنها..
- كيف أستطيع أنْ أهدأ؟ ساعديني أرجوك..
تبسمت من بين عبراتها الحارّة وهي تحضنها وتذكِّرُها بالدعاء له، فهوَ أحوجُ ما يكون إليه..
تذكِّرها بابتسامته، بيده المرفوعةِ للتشهد، بكلامِه عن الرِّضا، برضاه عنهم..
تنهدَتْ أختُها وهي تمسح عبراتها:
- نعم، لرُبّما غاب هذا عن ذهني..
أحمدُ الله.. أحمد الله حقاً.
لكنّي أفتقده..
- نعم سنفتقده ولا شكَّ، لكنها سُنة الحياة؛ لقاءٌ وفِراق، حبيبتي.
كم يُحبُّنا الله أنْ جعله راضياً قبل أن يرحلَ ويتركَنا..
كم رحمةُ الله واسعةٌ أن جعلَنا نراهُ، نحضنُه، نرى ابتسامته الأخيرة، ونطمئن ليدهِ المرفوعةِ بالتشهد.
.. بالسيارة، أخرجَ ابنُه ما كان فيها لوالده..
ومِن مسجّلةِ السيارة أخرج (شريطَ كاسيت) عن نعيمِ الجنة وصفات أهلها.
ذلك كان آخرَ عهده بالدنيا، وآخرَ ما سمعَهُ فيها..
رحمَه الله وغفر له، ورزق أهله الصبر والسُّلوان..
- اصبرْ يا أبي، ما علينا سِوَى الصّبرِ حينما يكونُ الظلمُ مِنَ العِباد!
.. وكأنَّها سمعتْ صوتَ ابتسامتهِ وهوَ يجيبها باسترخاءٍ:
- كلاّ يا ابنتي، ليسَ صبراً فحسبُ، بلْ هوَ الرّضا مادامتِ الأمورُ مِن عندِ الله.. فأنا أثقُ أنّ اللهَ قدّر هذا، وراضٍ بقضائهِ..
شعورُ الرِّضا - يا ابنتي - يمدُّنا بالقوّةِ حينما نعجَزُ، ويرسمُ الابتسامةَ على شِفاهِنا مهما كانَ الألم!
كانتْ ماتزالُ تشعرُ بألمٍ ينغزُ صدرَها وهِيَ تتذكَّرُ الظلمَ الذي يقعُ بالدُّنيا أحيانًا، لكنَّ كلامَ والدِها كانَ كالبلسمِ على قلبِها.. تنهّدتْ براحةٍ وهي تردُّ عليه:
- لا حرمَني اللهُ منكَ .. أبي.
- رضيَ الله عنكِ يا ابنَتي، يشهدُ الله أنّي راضٍ عنك وعن إخوتكِ، مهما فعلتُ أبقى مقصّراً معَكم.. سامحوني وثِقوا أنّي أحبُّكم وأقدِّرُ كمْ تحمَّلتمْ معي..
- لا، لا تقُل هذا، نحنُ مَن يجِبُ أنْ يقدّر... أنتَ أيضاً تحمّلتَ الكثيرَ يا أبي.. لا حرمنا الله منك.
.. هُناكَ، على شاطئ البحرِ، لوَّحَ مِن بينِ الأمواجِ لصغيرتهِ التي تلهُوْ بالرِّمال..
لوّحتْ لهُ بسعادةٍ وبراءةٍ وهي تؤشِّر لهُ على قَصرِها الذي بنَتْهُ بالرِّمالِ، ولا زالتِ الأمواجُ تعاندها فتهدمُه!
وقرْبَها.. وقفتْ والدتُها تصوِّرُهما بكاميرا الفيديو..
ذهبَ زوجُها يسبحُ بعيدًا، ولحِقتْهُ شاشةُ الكاميرا لترافقهُ عَن بُعد..
لوَّح بيده ... ثُم كأنَّ شيئًا ما يسحبُه!!
غاص، ثمَّ ارتفعَ ثانيةً وهوَ يلوح...
لوهلةٍ لمْ تستوعبْ ما حصلَ... وما هي إلاّ لحظاتٌ حتّى غابَ عنْ ناظرَيها..
قرّبَتِ الكاميرا أكثر .. أينَ هُو؟!
لمْ تعُدْ تراهُ!!
.. كانوا يتسوّقون، لا زالت لم تنتهِ مِن جَهازها بعدُ.. وقدْ بدأ العدُّ التنازليّ لفرَحها..
كانتْ هي وأُختُها وأخوها معاً..
رنَّ الجوّال:
- والدُكما متعَبٌ قليلاً، متى ستعودان للبيت؟
- متعَب!! كيف؟ هل حصلَ له شيء؟
- لا، لا تقلقوا! فقطْ لا تتأخّروا بالسُّوق!
انشغلَ بالُها، وعادتْ لذاكرتِها أحداثُ حلمِها بالأمْسِ..
كانتْ قلقةً، حلمتْ بهِ يموت!!
هزّت رأسها نافيةً الأمرَ؛ ليس سوى أضغاثِ أحلامٍ!
كانَ يحدِّثها اليومَ على الهاتفِ صَباحاً، حكى لها كثيراً عن الرِّضا.. كان مريحاً، ونشيطاً..
- إيمان، انظُري لهذا، هل يعجبكِ؟ أظنُّه سيناسبُ حفلةً هادئةً بعد الزواج، ما رأيك؟
تبسمتْ وهي تُخرجُ جوّالها الذي وصلته رسالة أيضاً:
"عظّم اللهُ أجرَكم، وغفرَ لميتِكُمْ"
شهقتْ بصوتٍ خافت، ثم بلعتْها فوراً.. لوهلةٍ توقفتْ دقّاتُ قلبِها. وتلفَّتتْ لأقربِ حائط لتستندَ عليه!
وتَمتَمَتْ بصوتٍ خافتٍ، ولسعاتٌ حارّة من العبَرات تُحرقُ عينَيها مِن خَلف غطاءِ وجهها:
- اللّهمّ أْجُرنيْ في مصيبتي واخلفني خَيراً منها، لا حولَ ولا قوّة إلا بالله!
تماسكتْ، لنْ تُشعرَهُم بشيءٍ، حتى يعودوا للبيتِ ليتلقّوا الخبرَ بهُدوء...
بعدَ بحثٍ طويل، وجدهُ أخوه هناكَ طافياً على البحر..
ولاشُعوريًّا، خرجت منه بقوة: الحمدُ لله.. الحمد لله.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
ربّما هي يدُه التي ارتفعتْ بالتشهد بوضوح، كانت كافيةً أنْ يحمدَ الله حتى وهو يراهُ طافياً بهذهِ الصُّورة..
ربّما تكونُ ردَّةُ فعلٍ لابتسامةِ الرِّضا التي توَّجتْ وجههُ المزرَقَّ!
أمّا زوجتُه فقد خانتها العبَراتُ الحارَّة التي تُحرقُ عينيها، وتَعجز عن منعها من السقوط حارَّةً على وجنتَيها..
وتردِّدُ: لا حولَ ولا قوة إلا بالله.. لا حول ولا قوة إلا بالله...
كانت لا تزال تكبتُ عبراتِها الحارقة، وتبتسمُ حتّى مِن خلفِ (غطْوَتِها)، كأنّها تَخشى أنْ يراها إخوتُها فيكتشِفوا..
وبخِفَّةٍ سحبتْ جوّال أخيها، وقالتْ أريدُ التأكدَ من الساعة.. وبحركةٍ سريعة فتحت الرسائل، لا شكّ وصلتهُ الرسالة.. ستمسحُها قبلَ أنْ يقرأها، فهو الذي يقودُ بهم، وتخشى أن يؤثرَ عليه حُزنه!
ألمٌ شديدٌ كان ينغزُ قلبَها، وتتنهّدُ بعمقٍ لتطردَه.. وتنظرُ من الشبّاكِ، تُشيحُ بوجهِها بَعيداً، كأنّها تَخشى أنْ تنظرَ حولَها.
فتغلبُها عَبَراتها.. وهُناك وقعتْ عينُها على آيةٍ خُطّتْ على مسجدٍ قُربَ إشارة مرورٍ توقفوا عندها:
{إنّا نَحنُ نَرِثُ الأرضَ ومَنْ عَلَيها وإليْنَا يرجعونَ}
سُبحان الله، تمرُّ كثيرًا بجوار هذا المسجد، ولمْ تقرأ يومًا هذه العبارة!
فهل أرادَ الله لها أنْ تقرأها اليومَ ليطمئنَّ قلبُها؟ سبحانَ الله..
كالماءِ شعرتْ به يغسلُ ذلك الألمَ الحارق..
وعادتْ كلمات والدها عن الرِّضا ترِنُّ بأذنها..
ونِعمَ بالله أبي، ونعمَ بالله.. سأكونُ راضيةً بإذن الله، ولنْ أصبر فحسب.
رغمَ أنّه يعزُّ عليها أنْ تفكرَ، كيف كانت تدعو صباحاً ألاَّ يَحرمَها الله منه، لكنّها ما تخيَّلت الأمر سيسيرُ سريعًا بهذه الدرجة!
تثقُ بأنّ اللهَ أرادَ لهُ ولهمُ الخير، وسترضى رغم الفراغِ الذي تشعرُ به بقلبها، لكنّه امتلأَ يقينًا وثقةً أراحتْها..
استقبلَتهُم أُختهم الصغيرةُ قائلةً ببراءة:
- بابا ذهبَ للبحرِ ولمْ يعُد بعدُ!!
حمَلتها بحنانٍ وهي تقبّلها وتقول لها:
- حبيبتي ، ربَّما لنْ يعود!
- لن يعود!! كيف؟ ولن يأخذَني لحديقةِ الألعاب؟ لقد وعدني بهذا! وبابا لا يُخلف وعدَه.
تبسَّمتْ أمُّها وهي تخنقُ عبراتها، وتفكِّر بصوت عال:
- صغيرتي ليستِ الدُّنيا هي قرارَنا! ليستْ سوى محطة.. وقد سبقَنا والدُكِ لمحطةٍ أُخرى أبعدَ قليلاً..
يجبُ أن نستعدَّ لنتقابلَ معه يوماً كما وعدَنا اللهُ، هناك حيث يومُ الوعد سيكون التلاقي.
.. ها هي أختُها تقوم فزِعةً ثانية..
- إيمان.. إيمان، لا زلتُ أراهُ كلَّما غفوتُ!
لا زال صوتُه يرِنُّ بأذني..
بكتْ أكثر حينما حضنتْها إيمانُ تحاولُ التخفيف عنها..
- كيف أستطيع أنْ أهدأ؟ ساعديني أرجوك..
تبسمت من بين عبراتها الحارّة وهي تحضنها وتذكِّرُها بالدعاء له، فهوَ أحوجُ ما يكون إليه..
تذكِّرها بابتسامته، بيده المرفوعةِ للتشهد، بكلامِه عن الرِّضا، برضاه عنهم..
تنهدَتْ أختُها وهي تمسح عبراتها:
- نعم، لرُبّما غاب هذا عن ذهني..
أحمدُ الله.. أحمد الله حقاً.
لكنّي أفتقده..
- نعم سنفتقده ولا شكَّ، لكنها سُنة الحياة؛ لقاءٌ وفِراق، حبيبتي.
كم يُحبُّنا الله أنْ جعله راضياً قبل أن يرحلَ ويتركَنا..
كم رحمةُ الله واسعةٌ أن جعلَنا نراهُ، نحضنُه، نرى ابتسامته الأخيرة، ونطمئن ليدهِ المرفوعةِ بالتشهد.
.. بالسيارة، أخرجَ ابنُه ما كان فيها لوالده..
ومِن مسجّلةِ السيارة أخرج (شريطَ كاسيت) عن نعيمِ الجنة وصفات أهلها.
ذلك كان آخرَ عهده بالدنيا، وآخرَ ما سمعَهُ فيها..
رحمَه الله وغفر له، ورزق أهله الصبر والسُّلوان..