bodalal
03-08-2008, 09:50 AM
للتاريخ ثلاثة مستويات، المستوى الأول هو توالي أحداث العالم على مر الزمان، والمستوى الثاني هو علم التاريخ الذي يصف تلك الأحداث ويوثقها، والمستوى الثالث فلسفة التاريخ وهو السؤال عن حركة التاريخ ومن يصنع احداثه. في اللغة العربية ليس لدينا سوى كلمة «تاريخ» في حين نجد في اللغات الاخرى عدة كلمات بحيث تميز المعنى بوضوح، مثلا في الانجليزية هناك كلمة Date التي تتحدث عن المستوى الأول وكلمة History التي تتحدث عن المستوى الثاني أي علم التاريخ، وفي الألمانية نجد كلمة Datum و Historich وكذلك كلمة ربما ليس لها مقابل في بقية اللغات هي Geschichte والتي تحمل معنى المستوى الثالث لمفهوم التاريخ.
تصور القديس أوغسطين - وهو أحد كبار الفلاسفة المسيحيين في العصور الوسطى ويمثل الخط الأفلاطوني المثالي، في مقابل أعظم فلاسفة العصور الوسطى المسيحية القديس توما الأكويني الذي يمثل خط ارسطو - ان التاريخ الانساني كله عبارة عن «فترة من الزمان تتحقق فيها خطة الله في خلاص الانسان منذ ان وقع آدم في الخطيئة: وأهم قسمات هذه الخطة هي: خلق العالم، خطيئة آدم، فناء الدنيا، القيامة ويوم الحساب»، ومن هنا أصبح تصور فلسفة التاريخ على انه ذو معنى إلهي، واستمر هذا الفهم حتى جاء فولتير الذي ثار على النظرة اللاهوتية للتاريخ ونادى بالتفسير الانساني الذي يقوم على تصور ان التاريخ كله من صنع الانسان.
ثم جاء عصر التنوير الذي مهد للثورة الفرنسية 1789م حيث ظهرت فكرة «التقدم»، وأصبح تصور التاريخ منذ ذلك الحين قائما على أساس هذه الفكرة، أي ان حركة التاريخ تسير نحو الامام، وقد ساهمت هذه النظرة في ظهور العديد من الفلسفات التقدمية وخاصة فلسفة كارل ماركس.
يعالج موضوع «فلسفة التاريخ» بصورة أساسية مسألة مهمة هي تفسير احداث التاريخ، فهل أحداث التاريخ تقوم على أساس وجود قوانين عامة كما هو الحال مع الطبيعة؟ ولكن في الطبيعة تتكرر الظواهر كلما توافرت ظروفها، فالماء يغلي كلما توافر التسخين فهل تحدث الثورات كلما وجد حاكم مستبد على سبيل المثال؟ ولكن أيضا، أليست الأحداث ذاتها تتكرر بالفعل، وما يختلف هو بعض التفاصيل البسيطة فقط؟ فها هي الدول تقوم وتسقط بغض النظر عن الأسباب أو الأشخاص. كما تثار مشكلة «من يصنع احداث التاريخ» هل هو الانسان؟ وما المقصود بالانسان هنا، هل هو الفرد المتمثل بالحاكم أم الانسانية كلها، أم ان الله هو صانع كل شيء حتى أحداث التاريخ؟
يجرنا ذلك الى الحديث عن مفهوم «حركة التاريخ»، ويمكن اعتبار بداية ظهور هذا التصور الجديد مع ابن خلدون الذي كان يرى ان للتاريخ «ظاهرا وباطنا» وان التاريخ (ككل) يسير بحركة دائرية، ويشبّه الدول بالانسان من حيث قيامها وانهيارها، بل انه حتى قرر لمراحل حركة التاريخ فترة زمنية مقدارها 40 عاما، فتبدأ الدول بالتشكل في مرحلة البداوة، ثم تنتقل الى مرحلة الحضارة فيسود العمران والرخاء، ثم يصيب الدولة الخمول جراء الترف وتبدأ بالانهيار مع مرور الزمن، وهكذا تعود الى حال البداوة والتوحش مرة اخرى في حركة دائرية لمسيرة التاريخ. غير ان نظرية ابن خلدون في «الحركة الدائرية للتاريخ» لم تلبث ان ظهر ما يعارضها، خاصة انها تقوم على نوع من الجبرية تشبه جبرية القديس أوغسطين.
ومن ابرز وأهم النظريات الفلسفية التي اثرت في تاريخ البشرية وأدت بصورة غير مباشرة الى تحولات كبرى هي نظرية الحركة الديالكتيكية للتاريخ عند هيجل الذي يرى ان تطور التاريخ يسير وفقا لمنطق «ديالكتيكي» (جدلي) لم تكن الشخصيات التاريخية فيه سوى أدوات لتحقيقه دون ان تشعر، فعلى الرغم من انهم يتحركون وفقا لأهوائهم ومصالحهم، الا ان ما يحدث فعليا هو تحقيق للتاريخ الكلي بغض النظر عن هذا أو ذاك وهذا التاريخ الكلي هو تقدم البشرية نحو الحرية، وهو ما حدث فعلا حيث انتقلت البشرية من صورة الطغيان الى عصر الجمهوريات الجديدة كما يعتقد.
الحركة الديالكتيكية عند هيجل تعني بالتحديد ان يوجد في مرحلة تاريخية معينة تصور ما (كالطغيان مثلا) يسير تقدما حتى يصل الى نقطة تظهر معها نقيض ذلك التصور (الحرية)، فيبدأ الصراع بين هذين التصورين المتناقضين ويستمر حتى يأتي تصور جديد يقضي على ذلك الصراع والتناقض، غير ان هذا التصور الجديد ما يلبث ان ينتج هو الآخر نقيضه، فيبدأ من جديد صراع آخر يتطلب هو أيضا حلا. وهكذا يستمر التاريخ بحركة جدلية تسير فيها «الروح الكلية» نحو الأمام، فكرة تنتج نقيضها وحل يقضي على التناقض.
... يتبع
تصور القديس أوغسطين - وهو أحد كبار الفلاسفة المسيحيين في العصور الوسطى ويمثل الخط الأفلاطوني المثالي، في مقابل أعظم فلاسفة العصور الوسطى المسيحية القديس توما الأكويني الذي يمثل خط ارسطو - ان التاريخ الانساني كله عبارة عن «فترة من الزمان تتحقق فيها خطة الله في خلاص الانسان منذ ان وقع آدم في الخطيئة: وأهم قسمات هذه الخطة هي: خلق العالم، خطيئة آدم، فناء الدنيا، القيامة ويوم الحساب»، ومن هنا أصبح تصور فلسفة التاريخ على انه ذو معنى إلهي، واستمر هذا الفهم حتى جاء فولتير الذي ثار على النظرة اللاهوتية للتاريخ ونادى بالتفسير الانساني الذي يقوم على تصور ان التاريخ كله من صنع الانسان.
ثم جاء عصر التنوير الذي مهد للثورة الفرنسية 1789م حيث ظهرت فكرة «التقدم»، وأصبح تصور التاريخ منذ ذلك الحين قائما على أساس هذه الفكرة، أي ان حركة التاريخ تسير نحو الامام، وقد ساهمت هذه النظرة في ظهور العديد من الفلسفات التقدمية وخاصة فلسفة كارل ماركس.
يعالج موضوع «فلسفة التاريخ» بصورة أساسية مسألة مهمة هي تفسير احداث التاريخ، فهل أحداث التاريخ تقوم على أساس وجود قوانين عامة كما هو الحال مع الطبيعة؟ ولكن في الطبيعة تتكرر الظواهر كلما توافرت ظروفها، فالماء يغلي كلما توافر التسخين فهل تحدث الثورات كلما وجد حاكم مستبد على سبيل المثال؟ ولكن أيضا، أليست الأحداث ذاتها تتكرر بالفعل، وما يختلف هو بعض التفاصيل البسيطة فقط؟ فها هي الدول تقوم وتسقط بغض النظر عن الأسباب أو الأشخاص. كما تثار مشكلة «من يصنع احداث التاريخ» هل هو الانسان؟ وما المقصود بالانسان هنا، هل هو الفرد المتمثل بالحاكم أم الانسانية كلها، أم ان الله هو صانع كل شيء حتى أحداث التاريخ؟
يجرنا ذلك الى الحديث عن مفهوم «حركة التاريخ»، ويمكن اعتبار بداية ظهور هذا التصور الجديد مع ابن خلدون الذي كان يرى ان للتاريخ «ظاهرا وباطنا» وان التاريخ (ككل) يسير بحركة دائرية، ويشبّه الدول بالانسان من حيث قيامها وانهيارها، بل انه حتى قرر لمراحل حركة التاريخ فترة زمنية مقدارها 40 عاما، فتبدأ الدول بالتشكل في مرحلة البداوة، ثم تنتقل الى مرحلة الحضارة فيسود العمران والرخاء، ثم يصيب الدولة الخمول جراء الترف وتبدأ بالانهيار مع مرور الزمن، وهكذا تعود الى حال البداوة والتوحش مرة اخرى في حركة دائرية لمسيرة التاريخ. غير ان نظرية ابن خلدون في «الحركة الدائرية للتاريخ» لم تلبث ان ظهر ما يعارضها، خاصة انها تقوم على نوع من الجبرية تشبه جبرية القديس أوغسطين.
ومن ابرز وأهم النظريات الفلسفية التي اثرت في تاريخ البشرية وأدت بصورة غير مباشرة الى تحولات كبرى هي نظرية الحركة الديالكتيكية للتاريخ عند هيجل الذي يرى ان تطور التاريخ يسير وفقا لمنطق «ديالكتيكي» (جدلي) لم تكن الشخصيات التاريخية فيه سوى أدوات لتحقيقه دون ان تشعر، فعلى الرغم من انهم يتحركون وفقا لأهوائهم ومصالحهم، الا ان ما يحدث فعليا هو تحقيق للتاريخ الكلي بغض النظر عن هذا أو ذاك وهذا التاريخ الكلي هو تقدم البشرية نحو الحرية، وهو ما حدث فعلا حيث انتقلت البشرية من صورة الطغيان الى عصر الجمهوريات الجديدة كما يعتقد.
الحركة الديالكتيكية عند هيجل تعني بالتحديد ان يوجد في مرحلة تاريخية معينة تصور ما (كالطغيان مثلا) يسير تقدما حتى يصل الى نقطة تظهر معها نقيض ذلك التصور (الحرية)، فيبدأ الصراع بين هذين التصورين المتناقضين ويستمر حتى يأتي تصور جديد يقضي على ذلك الصراع والتناقض، غير ان هذا التصور الجديد ما يلبث ان ينتج هو الآخر نقيضه، فيبدأ من جديد صراع آخر يتطلب هو أيضا حلا. وهكذا يستمر التاريخ بحركة جدلية تسير فيها «الروح الكلية» نحو الأمام، فكرة تنتج نقيضها وحل يقضي على التناقض.
... يتبع